الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم أخبر سبحانه أن الكفار لو قاتلوا أولياءه ، لولى الكفار الأدبار غير منصورين ، وأن هذه سنته في عباده قبلهم ، ولا تبديل لسنته .

فإن قيل : فقد قاتلوهم يوم أحد وانتصروا عليهم ولم يولوا الأدبار ؟ قيل : هذا وعد معلق بشرط مذكور في غير هذا الموضع ، وهو الصبر والتقوى ، وفات هذا الشرط يوم أحد بفشلهم المنافي للصبر ، وتنازعهم وعصيانهم المنافي للتقوى ، فصرفهم عن عدوهم ، ولم يحصل الوعد لانتفاء شرطه .

ثم ذكر - سبحانه - أنه هو الذي كف أيدي بعضهم عن بعض من بعد أن أظفر المؤمنين بهم ؛ لما له في ذلك من الحكم البالغة التي منها : أنه كان فيهم رجال ونساء قد آمنوا وهم يكتمون إيمانهم ، لم يعلم بهم المسلمون ، فلو سلطكم عليهم لأصبتم أولئك بمعرة الجيش ، وكان يصيبكم منهم معرة العدوان والإيقاع بمن لا يستحق الإيقاع به . وذكر سبحانه حصول المعرة بهم من هؤلاء المستضعفين المستخفين بهم ؛ لأنها موجب المعرة الواقعة منهم بهم ، وأخبر سبحانه أنهم لو زايلوهم وتميزوا منهم لعذب أعداءه عذابا أليما في الدنيا ؛ إما بالقتل والأسر وإما بغيره ، ولكن دفع عنهم هذا العذاب لوجود هؤلاء المؤمنين بين أظهرهم كما كان يدفع عنهم عذاب الاستئصال ورسوله بين أظهرهم .

ثم أخبر سبحانه عما جعله الكفار في قلوبهم من حمية الجاهلية التي مصدرها الجهل والظلم التي لأجلها صدوا رسوله وعباده عن بيته ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يقروا لمحمد بأنه رسول الله مع تحققهم صدقه وتيقنهم صحة رسالته بالبراهين التي شاهدوها وسمعوا بها في مدة عشرين سنة ، وأضاف هذا الجعل إليهم وإن كان بقضائه وقدره كما يضاف إليهم سائر أفعالهم التي هي بقدرتهم وإرادتهم .

ثم أخبر - سبحانه - أنه أنزل في قلب رسوله وأوليائه من السكينة ما هو [ ص: 280 ] مقابل لما في قلوب أعدائه من حمية الجاهلية ، فكانت السكينة حظ رسوله وحزبه ، وحمية الجاهلية حظ المشركين وجندهم ، ثم ألزم عباده المؤمنين كلمة التقوى ، وهي جنس يعم كل كلمة يتقى الله بها ، وأعلى نوعها كلمة الإخلاص ، وقد فسرت ببسم الله الرحمن الرحيم ، وهي الكلمة التي أبت قريش أن تلتزمها ، فألزمها الله أولياءه وحزبه ، وإنما حرمها أعداءه صيانة لها عن غير كفئها ، وألزمها من هو أحق بها وأهلها ، فوضعها في موضعها ولم يضيعها بوضعها في غير أهلها ، وهو العليم بمحال تخصيصه ومواضعه .

ثم أخبر سبحانه أنه صدق رسوله رؤياه في دخولهم المسجد آمنين ، وأنه سيكون ولا بد ، ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك في هذا العام ، والله سبحانه علم من مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم ، فأنتم أحببتم استعجال ذلك ، والرب تعالى يعلم من مصلحة التأخير وحكمته ما لم تعلموه ، فقدم بين يدي ذلك فتحا قريبا توطئة له وتمهيدا .

ثم أخبرهم بأنه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، فقد تكفل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض ، ففي هذا تقوية لقلوبهم وبشارة لهم وتثبيت ، وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن ينجزه ، فلا تظنوا أن ما وقع من الإغماض والقهر يوم الحديبية نصرة لعدوه ، ولا تخليا عن رسوله ودينه ، كيف وقد أرسله بدينه الحق ووعده أن يظهره على كل دين سواه .

ثم ذكر - سبحانه - رسوله وحزبه الذين اختارهم له ، ومدحهم بأحسن المدح ، وذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل ، فكان في هذا أعظم البراهين على صدق من جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن ، وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم ، لا كما يقول الكفار عنهم : إنهم متغلبون طالبو ملك ودنيا ، ولهذا لما رآهم نصارى الشام وشاهدوا هديهم وسيرتهم وعدلهم وعلمهم ورحمتهم وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة ، قالوا : ما [ ص: 281 ] الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء . وكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم ، والرافضة تصفهم بضد ما وصفهم الله به في هذه الآية وغيرها ، و : ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) [ الكهف : 17 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية