الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5258 [ ص: 167 ] 6 حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع، عن يونس، عن ثابت البناني، عن أنس قال: حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد - يعني بالمدينة - خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي، وهو شيخ مسلم أيضا، وأبو شهاب هو كنية عبد ربه بإضافة العبد إلى الرب، ابن نافع الحناط بالحاء المهملة، والنون المشددة المدايني، ويونس هو ابن عبيد البصري، وثابت -ضد الزائل- ابن أسلم البصري أبو محمد، ونسبته إلى بنانة بضم الباء الموحدة وتخفيف النونين، وهي زوجة سعد بن لؤي بن غالب بن فهر، فنسب بنوها إليها، وقيل: كانت أمة لسعد حضنت بنيه، وقيل: كانت حاضنة بنته، والحديث من أفراده.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وما نجد بالمدينة) أي: في المدينة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وعامة خمرنا البسر والتمر) البسر هو المرتبة الرابعة لثمرة النخل، أولها طلع، ثم خلال، ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، والخلال بكسر الخاء المعجمة جمع خلالة بالفتح، وقال ابن الأثير: هو البسر أول إدراكه، وقال الكرماني: الخمر مائع، والبسر جامد، فكيف يكون هو إياه؟!

                                                                                                                                                                                  قلت: هو مجاز عن الشراب الذي يؤخذ منه، عكس أراني أعصر خمرا أو ثمة إضمار، أي: عامة أصل خمرنا.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: تقدم أنه قال: ما بالمدينة فيها شيء، فكيف قال: عامة خمرنا؟

                                                                                                                                                                                  قلت: المراد بقوله (فيها) خمر العنب؛ إذ هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق أو المطلق محمول عليها، وفي التوضيح في هذا الحديث وفي الذي بعده رد على الكوفيين في قولهم: إن الخمر من العنب خاصة، وإن كل شراب يتخذ من غيره فغير محرم ما دون المسكر منه.

                                                                                                                                                                                  قلت: فيما ذكرنا في أول الباب يرد ما قاله، فراجع إليه تعرف المردود ما هو، وقال المهلب أيضا: ليس لأحد أن يقول: إن الخمر من العنب وحده، فهؤلاء الصحابة فصحاء العرب والفهماء عن الله ورسوله قالوا: إن الخمر من خمسة أشياء، وقد أخبر الفاروق بذلك حكاية عما نزل من القرآن، وقال: الخمر ما خامر العقل، وخطب بذلك على منبره صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ولم ينكره أحد، فصار كالإجماع.

                                                                                                                                                                                  قلت: كل من لا يفهم دقة ما قاله الكوفيون - رد عليهم برد مردود، وقول الكوفيين: "الخمر من العنب وحده" لا ينافي قول الصحابة: إن الخمر من خمسة أشياء، ولا يضر فصاحتهم; لأنهم استعملوا في كلامهم الحقيقة والمجاز، وهو عين الفصاحة، ولا يفرق بينهما من كلام الصحابة إلا من له ذوق من إدراك دقائق الكلام.

                                                                                                                                                                                  وقوله: فصار كالإجماع - فيه نظر قوي، وقال صاحب التوضيح: وروي عن ابن مسعود أنه قال في نقيع التمر: إنه خمر، وقال الشعبي، وابن أبي ليلى، والنخعي، والحسن البصري، وعبد الله بن إدريس، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث: المسكر خمر.

                                                                                                                                                                                  قلت: إطلاقهم الخمر على هذه الأشياء ليس من طريق الحقيقة، وإنما قالوا: خمر؛ لمخامرته العقل، ونحن نقول به من هذه الحيثية، وقد مر تحقيقه عن قريب. وقال أيضا: قال أبو حنيفة: المحرم عصير العنب النيء، فمن شرب منها ولو نقطة حد، وما عداها لا يحد إلا بالسكر، وموضع الرد عليه من الحديث أنهم كانوا يشربون بالمدينة الفضيخ، وهو ما يتخذ من البسر والتمر، فلما جاءهم منادي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الخمر قد حرمت، امتنعوا وكسروا الجرار، ولم ينكروا، ولا قالوا: كنا نشرب الفضيخ، بل امتنعوا، فلولا أنه عندهم خمر لما امتنعوا منه.

                                                                                                                                                                                  قلت: هو لم يحرر موضع الرد حتى رد على الإمام، والفضيخ الذي كانوا يشربونه حينئذ كان مسكرا، والمسكر يطلق عليه اسم الخمر باعتبار مخامرته العقل; لأن حقيقة الخمر من العنب النيء المشتد حتى يتعلق به الحد في قليله، وغير ماء العنب من الأشياء المذكورة لا يتعلق الحد إلا بالمسكر منها.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية