الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3171 22 - حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، حدثنا المغيرة بن النعمان قال : حدثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ، ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : أصحابي أصحابي ، فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله : الحكيم

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وسفيان هو الثوري ، والمغيرة بن النعمان النخعي الكوفي .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير ، عن أبي الوليد ، وسليمان بن حرب فرقهما ، وفي الرقاق عن بندار ، عن غندر ، وفي أحاديث الأنبياء عن محمد بن يوسف.

                                                                                                                                                                                  وفيه أيضا عن محمد بن كثير ، وأخرجه مسلم في صفة القيامة عن أبي موسى وبندار ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعن عبيد الله بن معاذ ، وأخرجه الترمذي في الزهد ، عن أبي موسى وبندار به ، وعن محمود بن غيلان ، وفي التفسير عن محمود بن غيلان أيضا ، وأخرجه النسائي في الجنائز ، عن محمود بن غيلان ، وعن محمد بن المثنى ، وفي التفسير عن سليمان بن عبيد الله .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : " إنكم محشورون " جمع محشور من الحشر ، وهو الجمع ، وفي رواية مسلم : " إنكم تحشرون " بتاء المضارعة على صيغة المجهول ، قوله : " حفاة " جمع حاف ، وهو خلاف الناعل كقضاة جمع قاض من حفي يحفى حفية وحفاية ، وأما من حفي من كثرة المشي إذا رقت قدمه فهو حفء من الحفا مقصور ، قوله : " عراة " جمع عار من الثياب ، قوله : " غرلا " بضم الغين جمع أغرل وهو الأقلف ، وهو الذي لم يختن ، وبقيت معه غرلته وهي قلفته وهي الجلدة التي تقطع في الختان ، قال الأزهري وغيره : هو الأغرل والأرغل والأغلف بالغين المعجمة في الثلاثة ، والأقلف ، والأعرم بالعين المهملة ، وجمعه غرل ورغل وغلف وقلف وعرم ، والغرلة : ما يقطع من ذكر الصبي ، وهو القلفة ، وبطولها يعرف نجابة الصبي ، وقال أبو هلال العسكري : لا تلتقي الراء مع اللام في العربية إلا في أربع كلمات : أرل اسم جبل ، وورل اسم دابة ، وجرل هو اسم للحجارة ، والغرلة ، وقال صاحب التوضيح : أهمل أربع كلمات أخرى : برل الديك وهو الريش الذي يستدير بعنقه ، وعين أغرل : أي واسع ، ورجل غرل مسترخي الخلق ، والهرل ولد قاله القالي ، قلت : لغة العرب واسعة ، واستقصاء هذه المادة متعسر ، والورل بفتحتين دابة مثل الضب ، والجمع ورلان ، والجرل بفتح الجيم ، وفتح الراء ، وكذلك الجرول ، والواو للإلحاق بجعفر ، وبرل الديك بضم الباء [ ص: 242 ] الموحدة ، وقال الجوهري : برائل الديك عفرته ، وهو الريش الذي يستدير في عنقه ، ولم يذكر برلا ، وقد برأل الديك برألة إذا نفش برائله ، وعين أغرل بالغين المعجمة ، ورجل غرل بفتح الغين المعجمة وكسر الراء مسترخي الخلق بالخاء المعجمة .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) ما فائدة الغلفة يوم القيامة ( قلت ) : المقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شيء معهم ، ولا يفقد منهم شيء حتى الغرلة تكون معهم ، وقال ابن الجوزي : لذة جماع الأقلف تزيد على لذة جماع المختون ، وقال ابن عقيل : بشرة حشفة الأقلف موقاة بالقلفة فتكون بشرتها أرق وموضع الحس كلما رق كان الحس أصدق كراحة الكف إذا كانت موقاة من الأعمال صلحت للحس ، وإذا كانت يد قصار أو نجار خفي فيها الحس ، فلما أبانوا في الدنيا تلك البضعة لأجله أعادها الله ليذيقها من حلاوة فضله ، قال : والسر في الختان مع أن القلفة معفو عن ما تحتها من النجس أنه سنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : روى أبو داود من حديث أبي سعيد أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - يقول : إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها ، ورواه ابن حبان أيضا ، وصححه ، وروى الترمذي من حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده قال : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - يقول إنكم تحشرون رجالا وركبانا ، وتجرون على وجوهكم ، ففيها معارضة لحديث الباب ظاهرا ، ( قلت ) : أجيب بأنهم يبعثون من قبورهم في ثيابهم التي يموتون فيها ، ثم عند الحشر تتناثر عنهم ثيابهم ، فيحشرون عراة أو بعضهم يأتون إلى موقف الحساب عراة ، ثم يكسون من ثياب الجنة ، وبعضهم حمل قوله : يبعثون في ثيابه على الأعمال أي في أعماله التي يموت فيها من خير أو شر ، قال تعالى : ولباس التقوى ذلك خير وقال تعالى : وثيابك فطهر أي عملك أخلصه .

                                                                                                                                                                                  وروى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعا : " يبعث كل عبد على ما مات عليه " وحمله بعضهم على الشهداء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بأن يزملوا في ثيابهم ويدفنوا بها ، ولا يغير شيء من حالهم ، وقالوا : يحتمل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهداء ، فتأوله على العموم ، وقال بعضهم : ومما يدل على حديث الباب قوله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وقوله تعالى : كما بدأكم تعودون ولا ملابس يومئذ إلا في الجنة .

                                                                                                                                                                                  وذهب الغزالي إلى حديث أبي سعيد ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : " بالغوا في أكفان موتاكم ; فإن أمتي تحشر في أكفانها ، وسائر الأمم عراة " ، رواه أبو سفيان مسندا ، وأجيب عنه على تقدير صحته أنه محمول على أمتي الشهداء ، واحتج الغزالي أيضا بما رواه أبو نصر الوائلي في الإبانة من حديث /0 أبي الزبير /0 ، عن جابر مرفوعا : " أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتباهون بها ، ويتزاورون في قبورهم " ، وأجيب بأن ذلك يكون في البرزخ كما في نفس الحديث ، فإذا قاموا خرجوا كما في حديث ابن عباس إلا الشهداء .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ثم قرأ قوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده " الآية وأولها هو قوله : ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب الأنبياء ) : أي يوم نطوي السماء طيا كطي السجل الصحيفة للكتاب المكتوب ، وعن علي ، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم : السجل ملك يطوي كتب ابن آدم إذا رفعت إليه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : السجل كاتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعنه أيضا : السجل يعني الرجل ، فعلى هذه الأقوال الكتاب اسم الصحيفة المكتوب فيها .

                                                                                                                                                                                  قوله : أول خلق مفعول لقوله نعيد الذي يفسره نعيده الذي بعده ، والكاف مكفوفة بما ، والمعنى نعيد أول خلق كما بدأناه ; تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء ، وقيل : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة نظيرها .

                                                                                                                                                                                  قوله : وعدا مصدر مؤكد ; لأن قوله : نعيده عدة للإعادة ، قوله : إنا كنا فاعلين أي قادرين على ما نشاء أن نفعل ، وقيل : معناه إنا كنا فاعلين ما وعدناه ، قوله : " وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم " فيه منقبة ظاهرة له ، وفضيلة عظيمة ، وخصوصية كما خص موسى عليه الصلاة والسلام بأنه صلى الله عليه وسلم يجده متعلقا بساق العرش ، مع أن سيد الأمة أول من تنشق عنه الأرض ، ولا يلزم من هذا أن يكون أفضل منه ، بل هو أفضل من في القيامة ، ولا يلزم من اختصاص الشخص بفضيلة كونه أفضل مطلقا ، أو المراد غير المتكلم بذلك ; لأن قوما من أهل الأصول ذكروا أن المتكلم لا يدخل تحت عموم خطابه .

                                                                                                                                                                                  وروى ابن المبارك في رقائقه من حديث عبد الله بن الحارث ، عن علي رضي الله تعالى عنه : " أول من يكسى خليل الله قبطيتين ، ثم يكسى محمد حلة حبرة عن يمين [ ص: 243 ] العرش ، وفي منهاج الحليمي من حديث عباد بن كثير ، عن أبي الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه : " أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم ، ثم محمد ، ثم النبيون ، ثم قال : إذا أتي بمحمد أتي بحلة لا يقوم لها البشر لنفاسة الكسوة ، فكأنه كسي مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام " ، وروى أبو نعيم من حديث ابن مسعود فيه : " فيكون أول من يكسى إبراهيم ، فيقول ربنا عز وجل : اكسوا خليلي ، فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ، ثم يقصد مستقبل العرش ، ثم يؤتى بكسوتي فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقاما يغبطني فيه الأولون والآخرون " .

                                                                                                                                                                                  وفي الأسماء والصفات للبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا : " أول من يكسى إبراهيم حلة من الجنة ، ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش ، ويؤتى بي فأكسى حلة لا يقوم لها البشر " ، والحكمة في خصوصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذلك ; لكونه ألقي في النار عريانا ، وقيل : لأنه أول من لبس السراويل مبالغة في الستر ، ولا سيما في الصلاة ، فلما فعل ذلك جوزي بأن يكون أول من يستر يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال " بكسر الشين ضد اليمين ، ويراد بها جهة اليسار ، قوله : " فأقول أصحابي أصحابي " الأول خبر مبتدأ محذوف تقديره هؤلاء أصحابي ، وأصحابي الثاني تأكيد له ، ويروى أصيحابي أصيحابي ، ووجه التصغير فيه إشارة إلى قلة عدد من هذا وصفهم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لن يزالوا " ، ويروى " لم يزالوا " ، وفي رواية مسلم : " ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب ، أصحابي" ، قوله : " لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " ، وفي رواية مسلم : " فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك " ، وقال الخطابي : الارتداد هنا التأخير عن الحقوق اللازمة ، والتقصير فيها ، قيل : هو مردود ; لأن ظاهر الارتداد يقتضي الكفر ; لقوله تعالى : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم أي رجعتم إلى الكفر والتنازع ، ولهذا قال : " بعدا لهم وسحقا " ، وهذا لا يقال للمسلمين ، فإن شفاعته للمذنبين .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) كيف خفي عليه حالهم ، مع إخباره بعرض أمته عليه ؟ ( قلت ) : ليسوا من أمته ، وإنما يعرض عليه أعمال الموحدين لا المرتدين والمنافقين ، وقال ابن التين : يحتمل أن يكونوا منافقين ، أو مرتكبي الكبائر من أمته قال : ولم يرتد أحد من أمته ، ولذلك قال : " على أعقابهم " ; لأن الذي يعقل من قوله المرتدين الكفار إذا أطلق من غير تقييد ، وقيل : هم قوم من جفاة العرب دخلوا في الإسلام أيام حياته رغبة ورهبة ، كعيينة بن حصين جاء به أبو بكر رضي الله تعالى عنه أسيرا ، والأشعث بن قيس فلم يقتلهما ولم يسترقهما ، فعادوا الإسلام ، وقال النووي : المراد به المنافقون والمرتدون ، وقيل : المراد من كان في زمنه مسلما ، ثم ارتد بعده فيناديه لما كان يعرفه في حال حياته من إسلامهم ، فيقال : ارتدوا بعدك .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : يشكل عليه بعرض الأعمال ، ( قلت ) : قد ذكرنا أن الذي يعرض عليه أعمال الموحدين لا المرتدين ولا المنافقين ، وقال أبو عمر : كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض ، كالخوارج ، والروافض ، وسائر أصحاب الأهواء ، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق ، والمعلنون بالكبائر .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فأقول كما قال العبد الصالح " وهو عيسى ابن مريم صلوات الله عليهما ، قوله : " وكنت عليهم شهيدا إلى آخره " ، وتمام هذا الكلام من قوله : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إلى قوله : فإنك أنت العزيز الحكيم ومعنى قوله : وكنت عليهم شهيدا أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب أي الحفيظ عليهم ، والمراقبة في الأصل المراعاة ، وقيل : أنت العالم بهم وأنت على كل شيء شهيد أي شاهد لما حضر وغاب ، وقيل : على من عصى وأطاع ، قوله : إن تعذبهم ذكر ذلك على وجه الاستعطاف والتسليم لأمره وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم لأنهم عبادك وأنت العادل فيهم ، وأنت في مغفرتك عزيز لا يمتنع عليك ما تريد حكيم في ذلك .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية