الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3073 55 - حدثنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  عبد الله هو ابن المبارك، والحديث أخرجه الترمذي في صفة الجنة أيضا عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك أيضا، وقال: حديث صحيح.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أول زمرة"؛ أي: جماعة. قوله: " تلج"؛ أي: تدخل، من ولج يلج ولوجا. قوله: " صورتهم على صورة القمر ليلة البدر"؛ أي: في الإضاءة، وسيأتي في الرقاق بلفظ: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، ويجيء هنا في الرواية الثانية، والذين على آثارهم كأشد كوكب إضاءة. قوله: " لا يبصقون" من البصاق، "ولا يمتخطون" من المخاط، "ولا يتغوطون" من الغائط، وهو كناية عن الخارج من السبيلين جميعا، وزاد في صفة آدم: لا يبولون، ولا يتفلون، ويأتي في الرواية الثانية: ولا يسقمون، وفي رواية مسلم من حديث جابر: يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، وفي رواية النسائي من حديث زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال: نعم، إن أحدكم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع، قال: الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، وليس في الجنة أذى، قال: تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كرشح المسك. وقال الطبري: السائل ثعلبة بن الحارث. قوله: " آنيتهم الذهب" وفي الرواية التي تأتي: والفضة، وقال في الأمشاط عكس ذلك، فكأنه اكتفى في الموضعين بذكر أحدهما عن الآخر. قوله: " أمشاطهم" جمع مشط وهو مثلث الميم، والأفصح ضمها. قوله: " ومجامرهم" جمع مجمرة، وهي المبخرة سميت مجمرة; لأنها يوضع فيها الجمر ليفوح به ما يوضع فيها من البخور، و"مجامرهم" مبتدأ، و"الألوة" خبره، ويفهم منه نفس العود، ولكن في الرواية الثانية: وقود مجامرهم الألوة، فعلى هذا يكون المضاف هنا محذوفا. وقال الكرماني: في الجنة نفس المجمرة هي العود.

                                                                                                                                                                                  (قلت): فعلى هذا يكون المعنى: وعودهم الألوة، فإذا كان الألوة عودا يكون الحمل غير صحيح; لأن المحمول يكون غير الموضوع، وقال الطيبي: المجامر جمع مجمرة بكسر الميم، وهو الذي يوضع النار فيه للبخور، وبالضم هو الذي يتبخر به، وأعد له الجمر، ثم قال: والمراد في الحديث هو الأول، وفائدة الإضافة أن الألوة هي الوقود نفسه، بخلاف المتعارف.

                                                                                                                                                                                  فإن وقودهم غير الألوة، وقيل: المجامر جمع، والألوة مفرد، فلا مطابقة بين المبتدأ والخبر، وأجيب بأن الألوة جنس، وهو بضم الهمزة وفتحها وضم اللام وتشديد الواو، وهو العود الذي يتبخر به، وروي بكسر اللام أيضا وهو معرب، وحكى ابن التين كسر الهمزة وتخفيف الواو، والهمزة أصلية، وقيل: زائدة.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): إن رائحة العود إنما تفوح بوضعه في النار، والجنة لا نار فيها.

                                                                                                                                                                                  (قلت): يحتمل أن يشتعل بغير نار، ويحتمل أن يكون بنار لا ضرر فيها ولا إحراق ولا دخان، وقيل: تفوح بغير إشعال، ويشابه ذلك ما رواه الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا: إن الرجل في الجنة ليشتهي الطير فيخر بين يديه مشويا.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): أي حاجة لهم إلى المشط وهم مرد، وشعورهم لا تتسخ، وأي حاجة لهم إلى [ ص: 155 ] البخور وريحهم أطيب من المسك؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): نعيم أهل الجنة من أكل وشرب وكسوة وطيب ليس عن ألم جوع أو ظمأ أو عري أو نتن، وإنما هي لذات مترادفة، ونعم متوالية، والحكمة في ذلك أنهم ينعمون بنوع ما كانوا يتنعمون به في دار الدنيا.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: مذهب أهل السنة أن تنعم أهل الجنة على هيئة تنعم أهل الدنيا، إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة، ودل الكتاب والسنة على أن نعيمهم لا انقطاع له. قوله: "ورشحهم المسك"؛ أي: عرقهم كالمسك في طيب الرائحة. قوله: " زوجتان"؛ أي: من نساء الدنيا، ويؤيد هذا ما رواه أحمد من وجه آخر، عن أبي هريرة مرفوعا في صفة أدنى أهل الجنة منزلة، وأن له من الحور العين ثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا، وقال الطيبي: الظاهر أن التثنية يعني في قوله: "زوجتان" للتكرير لا للتحديد؛ كقوله تعالى: ثم ارجع البصر كرتين ; لأنه قد جاء أن للواحد من أهل الجنة العدد الكثير من الحور العين.

                                                                                                                                                                                  (قلت): فيه نظر لا يخفى، وقيل: يجوز أن يكون يراد به نحو: لبيك وسعديك، فإن المراد: تلبية بعد تلبية، وليس المراد نفس التثنية، أو يكون باعتبار الصنفين؛ نحو: زوجة طويلة، والأخرى قصيرة، أو إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة، قيل: استدل أبو هريرة بهذا الحديث على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الكسوف: " رأيتكن أكثر أهل النار".

                                                                                                                                                                                  (قلت): أجيب بأنه لا يلزم من أكثريتهن في النار، ففي أكثريتهن في الجنة.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): يشكل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: " اطلعت في الجنة، فرأيت أقل ساكنيها النساء".

                                                                                                                                                                                  (قلت): قد ذكرنا فيما مضى عن قريب أن هذا كان قبل الشفاعة، ثم قوله: "زوجتان" بالتاء، وهي لغة كثرت في الحديث، والأشهر خلافها، وبه جاء القرآن، وهو الأفصح مع أن الأصمعي كان ينكر التاء، ولكن رد عليه أبو حاتم السجستاني بشواهد ذكرها. قوله: " يرى مخ سوقهما من وراء اللحم"؛ المخ بضم الميم وتشديد الخاء المعجمة: ما في داخل العظم لا يستتر بالعظم واللحم والجلد، وفي رواية الترمذي: ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها، وفي رواية أحمد من رواية أبي سعيد: ينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة، و(سوق) بضم السين جمع ساق، وكلمة " من" في "من الحسن"، يجوز أن تكون للتعليل، وأن تكون بيانية. قوله: " لا اختلاف بينهم"؛ أي: بين أهل الجنة، ولا تباغض لصفاء قلوبهم ونظافتها من الكدورات. قوله: " قلوبهم" مرفوع على الابتداء، وخبره: "قلب واحد" بالإضافة في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: واحد مرفوع على أنه صفة لـ"قلب"، وأصله على التشبيه حذفت أداته، أي: كقلب رجل واحد. قوله: " يسبحون الله بكرة وعشيا" هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام، وقد فسره جابر في حديثه عند مسلم بقوله: يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه، ولا بد له منه، فجعل تنفسهم تسبيحا، وسببه أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب سبحانه وتعالى، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): لا بكرة ولا عشية؛ إذ لا طلوع ولا غروب.

                                                                                                                                                                                  (قلت): المراد منه مقدارهما، أو دائما يتلذذون به، قاله الكرماني.

                                                                                                                                                                                  (قلت): إذا تلذذوا به دائما يبقى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " بكرة وعشيا" بلا فائدة، والظاهر أن تسبيحهم يكون في هذين الوقتين.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): كيف يعرفون هذين الوقتين بلا ليل ولا نهار؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): قد قيل: إن تحت العرش ستارة معلقة تطوى وتنشر على يد ملك، فإذا طواها يعلمون أنهم لو كانوا في الدنيا كان هذا نهارا وإذا أسبلها يعلمون أنهم لو كانوا في الدنيا كان ليلا، وانتصاب "بكرة وعشيا" على الظرفية.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية