الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : ولا ينبغي للإمام أن ينفل أحدا مما قد أصابه إنما النفل قبل إحراز الغنيمة أن يقول : من قتل قتيلا فله سلبه ومن أصاب شيئا فهو له وقد كان يستحب ذلك للإغراء على القتال وهذا الكلام يشتمل على فصول : أحدها أن القاتل لا يستحق السلب بالقتل عندنا من غير تنفيل الإمام ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إذا قتله مقبلا بين الصفين على وجه المبارزة استحق سلبه واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر { : من قتل قتيلا فله سلبه } فمثل هذا اللفظ في لسان صاحب الشرع لبيان السبب كقوله صلى الله عليه وسلم { : من بدل دينه فاقتلوه } فظاهره لنصب الشرع فإنه صلى الله عليه وسلم بعث لذلك وفي حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال : أصاب المسلمين جولة يوم حنين فلقيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فأتيته من ورائه وضربته على حبل عاتقه ضربة فأقبل علي وضمني إلى نفسه ضمة شممت منها رائحة الموت ثم أدركه الموت ، فأرسلني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول { : من قتل قتيلا فله سلبه ، فقلت : من يشهد لي ؟ فقال رجل : صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه عني ، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : لاها الله أيعمد أسد من أسد الله فيقتل عدو الله ثم يعطيك سلبه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان القتل منه قبل مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعطاه سلبه } ، فظهر أن الاستحقاق بالقتل لا بالتنفيل ; ولأن القاتل أظهر فضل عناية على غيره بمباشرة القتل فيستحق التفضيل في الاستحقاق كالفارس مع الراجل [ ص: 48 ] وهذا لأن القاتل على سبيل المبارزة يحتاج إلى زيادة عناء ومخاطرة بالنفس ولهذا لو قتله مدبرا لا يستحق سلبه .

وكذلك لو رمى سهما من صف المسلمين فقتل مشركا لا يستحق سلبه ; لأنه ليس فيه زيادة العناء فكل واحد يتجاسر على ذلك ، وأصحابنا استدلوا بقوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ، والسلب من الغنيمة ; لأن الغنيمة مال يصاب بأشرف الجهات ، فينبغي أن يجب فيه الخمس بظاهر الآية وعندكم لا يجب وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : السلب من الغنيمة وفيه الخمس واستدل بالآية { وجاء رجل من بلقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لمن المغنم ؟ قال : لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم ، فقال : هل أحد أحق بشيء من غيره ؟ قال : لا حتى لو رميت بسهم في جنبك فاستخرجته لم تكن أحق به من أخيك } وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : كنت واقفا يوم بدر بين شابين حديث أسنانهما أحدهما معوذ ابن عفراء والآخر معاذ بن عمر وابن الجموح فقال لي أحدهما : أي عم أتعرف أبا جهل ؟ قلت : وما شأنك به ؟ قال : بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو لقيته ما فارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا موتا وعمر بي الآخر إلى مثل ذلك فلقيت أبا جهل في صف المشركين فقلت : ذاك صاحبكما الذي تريدانه فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه واختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل واحد منهما : أنا قتلته ، والسلب لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمسحتما سيفيكما ؟ فقالا : لا فقال : أرياني سيفيكما فأرياه فقال : كلاكما قتله ثم أعطى السلب معوذ ابن عفراء } ولو كان الاستحقاق بالقتل لما خص به أحدهما مع قوله صلى الله عليه وسلم { كلاكما قتله } .

( فإن قيل ) : كيف يصح هذا والمشهور أن ابن مسعود رضي الله عنه قتله قلنا : هما أثخناه وابن مسعود رضي الله عنه أجهز عليه على ما روي أنه قال : وجدته صريعا في القتلى وبه رمق فجلست على صدره ففتح عينيه ، وقال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى عظيما لمن الدبرة قلت : لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تريد أن تصنع قلت : أحز رأسك قال : لست بأول عبد قتل سيده ولكن خذ سيفي فهو أمضى لما تريد وأقطع رأسي من كاهل ليكون أهيب في عين الناظر وإذا لقيت محمدا فأخبره أني اليوم أشد بغضا له مما كنت قبل هذا فقطعت رأسه وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيته بين يديه وقلت : هذا رأس أبي جهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : الله أكبر هذا كان فرعوني وفرعون أمتي شره على أمتي [ ص: 49 ] أكثر من شر فرعون على بني إسرائيل ونفلني سيفه } ففي هذا بيان أنه أجهز عليه وأن الاستحقاق ليس بنفس القتل إذ لو كان الاستحقاق بنفس القتل لكان المستحق للسيف من أثخنه فما كان ينفله غيره وإن البراء بن مالك رضي الله عنه قتل مرزبان الرازة وأخذ سلبه مرصعا باللؤلؤ والجوهر فقوم بعشرين ألفا فقال عمر رضي الله عنه : كنا لا نخمس الأسلاب وإن سلب البراء بلغ هذا المبلغ وما أراني إلا خامسه قال أنس : فبعثنا بالخمس أربعة آلاف إليه فإذا تبين وجوب الخمس فيه ثبت أن الباقي منه مقسوم بين الغانمين وما نقل من قوله { من قتل قتيلا فله سلبه } كان على سبيل التنفيل منه لا على وجه نصب الشرع وإنما يكون ذلك نصب الشرع إذا قاله في المدينة في مسجده ولم ينقل أنه قال ذلك إلا يوم بدر عند القتال للحاجة إلى التحريض وقد كانوا أذلة يوم حنين حين ولوا منهزمين للحاجة إلى التحريض فعرفنا أنه قال ذلك على سبيل التنفيل لا على وجه نصب الشرع ، وعندنا بالتنفيل يستحق .

ولأن القاتل إنما تمكن من قتله وأخذ سلبه بقوة الجيش فلا يختص به كما لو أخذ أسيرا أو أصاب مالا آخر لا يختص به وكما يكون منه فضل عناء في القتل يكون ذلك منه بأخذ الأسير واستلاب سلب الحي ثم لا يختص به إلا بعد تنفيل الإمام وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر { : من قتل قتيلا فله سلبه } قال { : من أخذ أسيرا فهو له } ثم كان ذلك على وجه التنفيل فكذلك في السلب ، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم { : ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه } .

التالي السابق


الخدمات العلمية