الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في جعل القاعد للشاخص : ما جعل من ذلك في الكراع والسلاح فلا بأس به وما صنع ذلك في متاع البيت فلا خير فيه . وفيه دليل جواز التجاعل بخلاف ما يقوله بعض الناس أن من خرج للجهاد لا يحل له أن يجتعل من غيره واعتمدوا فيه ما روي { أن رجلا استؤجر بدينارين للجهاد فلما جاء يطلب الغنيمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بكم استؤجرت قال بدينارين قال : إنما لك ديناران في الدنيا والآخرة } ولكنا نقول بهذا الحديث فنقول : الاستئجار على الجهاد لا يجوز والتجاعل ليس [ ص: 20 ] باستئجار ولكنه إعانة على السير وهو مندوب إليه وجهاد بالمال والنفس جميعا قال الله تعالى { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } وقال جل وعلا { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } وأحوال الناس متفاوتة فمنهم من يقدر على إقامة الفرض بهما ومنهم من يقدر على إقامة الجهاد بالنفس لصحة بدنه ويعجز عن الخروج لفقره والآخر يعجز عن الخروج والجهاد بالنفس لمرض أو آفة ويقدر على الجهاد بالمال فيجهز بماله من يخرج فيجاهد بنفسه حتى يكون الخارج مجاهدا بالنفس والقاعد المعطي المال مجاهدا بالمال والمؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا ولهذا كره ابن عباس رضي الله عنهما لقابض المال أن يجعل ذلك في متاع بيته لأن المعطي أمره بالجهاد به وذلك في استعداده له والإنفاق في الطريق على نفسه وهو على وجهين عندنا إن قال : هذا المال لك فاغز به فله أن يصرفه إلى ما يشاء لأنه ملكه المال ثم أشار عليه بأن يصرفه إلى الجهاد فإن شاء قبل مشورته وإن شاء لم يقبل وإن قال اغز بهذا المال فليس له أن يصرفه إلى متاع بيته ولكن يشتري به الكراع والسلاح وينفق على نفسه في طريق الجهاد وقد بينا نظيره في الحج .

وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يغزي العزب عن ذي الحليلة ويعطي الغازي فرس القاعد وأنه كان حسن التدبير والنظر للمسلمين فمن حسن نظره هذا أن ذا الحليلة قلبه مع أهله فلا يطيل المقام في الثغر والعزب لا يكون قلبه وراءه فيتمكن من إطالة المقام فلهذا كان يأمر العزب بالخروج ، ومنهم من يروي الأعزب ، وكان يعطي الغازي فرس القاعد ليكون صاحب الفرس مع زوجته يحفظها ، ويكون مجاهدا بفرسه ، والخارج يكون مجاهدا ببدنه ثم منهم من يقول : إنما كان يفعل ذلك بالتراضي فأما عند عدم الرضى ما كان يفعل ذلك بل كان يجهز الغازي من بيت المال إن لم يكن مال فإن مال بيت المال معد لذلك والأصح أن نقول للإمام أن يفعل ذلك عند الحاجة فإن لم يكن في بيت المال مال ومست الحاجة إلى تجهيز الجيش ليذبوا عن المسلمين فله أن يحكم على الناس بقدر ما يحتاج إليه لذلك لأنه مأمور بالنظر للمسلمين وإن لم يجهز الجيش للدفع ظهر المشركون على المسلمين فيأخذون المال والذراري والنفوس فمن حسن التدبير أن يتحكم على أرباب الأموال بقدر ما يحتاج إليه لتجهيز الجيش ليأمنوا فيما سوى ذلك وهو المراد بما ذكر بعده عن جرير بن عبد الله أن معاوية رضي الله عنه ضرب بعثا على أهل الكوفة فرفع عن جرير وعن ولده وقال جرير رضي الله عنه : لا نقبل ذلك ولكن نجعل أموالنا للغازي ومعنى ضرب البعث [ ص: 21 ] التحكم عليهم في أموالهم بقدر الحاجة لتجهيز الجيش فكأنه من على جرير وولده رضي الله عنهم بأن رفع ذلك عنهم فقد كان موقرا فيهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقره حتى قال جرير رضي الله عنه : ما نظر إلي إلا تبسم ولو في صلاته لكن لم يقبل جرير هذه المنة منه لعلمه أن في الجهاد بالمال معنى الثواب واستحقاق المؤمن التوقير بكونه مستبقا إلى الخيرات والطاعات ولكن قال : لا أعطي المال إليك بل أدفع بنفسي إلى من أختاره من الغزاة ليتبين به أنه غير مجبر على ما يعطي وبهذا يستدل من يقول من أصحابنا إن الأفضل للمرء أن يشارك أهل محلته في إعطاء النائبة .

ولكنا نقول هذا كان في ذلك الوقت لأنه إعانة على الطاعة فأما في زماننا إنما يوجد أكثر النوائب بطريق الظلم ، ومن تمكن من دفع الظلم عن نفسه فذلك خير له ، وإن أراد الإعطاء فليعطه من هو عاجز عن دفع الظلم عن نفسه وعن أداء المال لفقره حتى يستعين على دفع الظلم فينال المعطي الثواب بذلك وعن أبي مرزوق عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح قرية بالمغرب فخطب أصحابه فقال : لا أحدثكم إلا بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول يوم خيبر { : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره ولا يتبع المغنم حتى يقسم ولا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه } ففيه دليل على أن صاحب الجيش عند الفتح ينبغي له أن يخطب ويعلم الناس في خطبته ما يحتاجون إليه في ذلك الوقت فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعند فتح خيبر فمما ذكر عنده في فتح خيبر هذا الحديث وفيه دليل على أنه لا يحل وطء الحبالى من الفيء وبه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس : { ألا لا توطأ الحبالى من الفيء حتى يضعن ولا الحبالى حتى يستبرئن بحيضة ، } وفي وطء الحامل سقي مائه زرع غيره كما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوة سمع الجنين وبصره وشعره بماء الواطئ ففيه دليل أنه ليس للغازي أن يبيع نصيبه قبل القسمة لأن الملك لا يثبت له إلا بالقسمة وبيع مجرد الحق لا يجوز ولأن نصيبه مجهول لا يدري أين يقع وأي مقدار يكون ، وللإمام رأي في بيع الغنائم وقسمة الثمن فإنما يبيع ما هو مجهول جهالة متفاحشة وذلك باطل وفيه دليل على أنه لا يحل لبعضهم الانتفاع بدواب الغنيمة وثيابها قبل القسمة وقد سمى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ربا الغلول في حديث آخر ونهى عنه ولكن هذا عند عدم [ ص: 22 ] الحاجة فأما إذا تحققت الحاجة والضرورة فلا بأس بأن يفعل ذلك في دار الحرب بغير ضمان وفي دار الإسلام يشترط ضمان النقصان لأن عند الضرورة له أن يدفع الضرر عن نفسه بمال الغير بشرط الضمان مع أنه لا حق له فيه فلأن يكون له ذلك فيما له فيه حق أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية