الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
والكلام ههنا في فصول : ( أحدها : ) مفاداة الأسير بمال يؤخذ من أهل الحرب ، فإن ذلك لا يجوز عنده ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال العظيم ، وذكر محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير أن ذلك يجوز إذا كان بالمسلمين حاجة إلى المال لقوله تعالى { فإما منا بعد وإما فداء } ، والمراد به الأسارى بدليل أول الآية فشدوا الوثاق { ، ولما شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم في الأسارى يوم بدر أشار أبو بكر رضي الله عنه بالمفاداة ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك } لما رأى من حاجة أصحابه إلى المال في ذلك الوقت ، والمعنى فيه أن استرقاق الأسير جائز ، وفيه منفعة للمسلمين من حيث المال ، فإذا فادوه بمال عظيم فمنفعة المسلمين من حيث المال في ذلك أظهر فيجوز ذلك ، ولا يجوز قتله ، وفيه إبطال الغانمين عنه بغير عوض ، فلأن يجوز بعوض ، وهو المال [ ص: 139 ] الذي يفادى به كان أولى .

( وحجتنا ) في ذلك قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } فبهذا تبين أن قتل المشرك عند التمكن منه فرض محكم ، وفي المفاداة ترك إقامة هذا الفرض ، وسورة براءة من آخر ما نزل فكانت هذه الآية قاضية على قوله تعالى { فإما منا بعد وإما فداء } على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفاداة الأسارى يوم بدر كيف وقد قال تعالى { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } ، وقال صلى الله عليه وسلم : { لو نزل العذاب ما نجا منه إلا عمر } ، فإنه كان أشار بقتلهم واستقصى في ذلك ، وقال تعالى : { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } فما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة على وجه الإنكار عليهم ففائدتنا أن لا نفعل مثل ما فعلوا ، وحديث أبي بكر رضي الله عنه في الأسير حيث قال لا تفادوه ، وإن أعطيتم به مدين من ذهب ، ولأنه صار من أهل دارنا فلا يجوز إعادته إلى دار الحرب ليكون حربا علينا بمال يؤخذ منه كأهل الذمة ، وبه فارق الاسترقاق ; لأن في ذلك تقرير كونه من أهل دارنا لا لمقصود المال كأخذ الجزية من أهل الذمة ، ولأن تخلية سبيل المشرك ليعود حربا للمسلمين معصية ، وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز ، وقتل المشرك فرض ، ولو أعطونا مالا لترك الصلاة لا يجوز لنا أن نفعل ذلك مع الحاجة إلى المال فكذلك لا يجوز ترك قتل المشرك بالمفاداة ، يوضحه أن في هذا تقوية المشركين بمعنى يختص بالقتال ، وذلك لا يجوز لمنفعة المال كما لا يجوز بيع الكراع والسلاح منهم بل أولى ; لأن قوة القتال بالمقاتل أظهر منه بآلة القتال ، وعن محمد رحمه الله تعالى قال : لا يجوز المفاداة للشيخ الكبير الذي لا يرجى له نسل ، ولا رأي له في الحرب بالمال ; لأن مثله لا يقتل ، وليس في المفاداة ترك القتل المستحق ، ولا تقوية المشركين بإعادة المقاتل إليهم فهو كبيع الطعام وغيره من الأموال منهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية