الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مسلم قطع يد مسلم عمدا أو خطأ ثم ارتد المقطوعة يده عن الإسلام فمات أو قتل أو لحق بدار الحرب فعلى القاطع دية اليد في ماله إن كان عمدا ، وعلى عاقلته إن كان خطأ ; لأن قطع اليد كانت جناية موجبة للضمان ، وقد انقطعت السراية بزوال عصمة نفسه بالردة فصار كما لو انقطع بالبرء فيلزمه دية اليد فقط ، وإن أسلم قبل اللحوق بدار الحرب ثم مات من تلك الجناية فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله عليه دية النفس استحسانا ، وعند محمد وزفر رحمهما الله ليس عليه إلا دية اليد قياسا ; لأن السراية قد انقطعت بزوال عصمة نفسه بالردة ثم بالإسلام بعد ذلك لا يتبين أن العصمة لم تكن زائلة ، فحكم السراية بعد ما انقطع لا يعود ، وكان موته من تلك الجناية ، وموته بسبب آخر سواء .

ألا ترى أنه لو لحق بدار الحرب ثم عاد ثانيا فمات من تلك الجناية لم يجب على القاطع إلا دية اليد فكذلك قبل اللحوق ، ولأن اعتبار الجناية والسراية لحقه بعد سقوط حقه بالردة فيصير هو كالمبرإ عن سراية تلك الجناية كما لو قطع يد عبد ثم أعتقه مولاه أو باعه صار مبرئا عن السراية بإزالة ملكه ، وبعد ما صح الإبراء ليس له ولاية إعادة حقه في السراية فكان وجود إسلامه في حكم السراية كعدمه ، وهما يقولان حقه توقف بالردة على ما قررنا [ ص: 108 ] فإذا أسلم زال التوقف فصار ما اعترض كأن لم يكن ، بخلاف العبد إذا باعه أو أعتقه فقد تم زوال ملكه هناك ، واعتبار الجناية كان لملكه يوضح الفرق أن ضمان الجناية في المماليك باعتبار صفة المملوكية ، ولهذا يجب الضمان لتمكن النقصان في المالية شيئا فشيئا ، وقد انعدم ذلك بالعتق أصلا ، وبالبيع في حق من كان مستحقا له ، فأما وجوب ضمان الجزء باعتبار النفسية ، ولا ينعدم بالردة ، ولكن العصمة شرط ، فإنما يراعى وجوده عند ابتداء السبب لينعقد موجبا ، وعند تقرره بالموت لتقرر الحكم فلا يعتبر فيه بقاء العصمة ، وهو نظير ما لو قال لعبده : إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار يعتق لهذا المعنى ، فأما إذا لحق بدار الحرب ، فإن كان القاضي قضى بلحاقه فقد صار ميتا حكما ، وبقاء حكم الجناية باعتبار بقاء النفسية ، وذلك لا يتحقق بعد موته حكما إذ لا تصور لبقاء الحكم بدون المحل ، وإذا لم يقض القاضي بلحاقه فالأصح أنه على الخلاف ، فمن أصحابنا من سلم وقال : بنفس اللحاق صار حربيا ، والحربي في حق من هو في دار الإسلام كالميت ، ولهذا لو كانت امرأة تسترق كسائر الحربيات فيتم به انقطاع حكم السراية ، بخلاف ما قبل لحاقه بدار الحرب ، يوضحه أن الردة عارض ، فإذا زال قبل تقرره صار كأن لم يكن كالعصير المشترى إذا تخمر قبل القبض ثم تخلل بقي العقد صحيحا ، ولا يعتبر زواله بعد تقرره كما في العصير إذا تخمر ، فقضى القاضي بفسخ العقد ثم تخلل ، وباللحاق قد تقرر خصوصا إذا قضى به القاضي فلا يعتبر زواله بعد ذلك بخلاف ما قبل اللحاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية