الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) ولا يقبل من مشركي العرب الصلح والذمة ، ولكن يدعون إلى الإسلام ، فإن أسلموا ، وإلا قوتلوا ، وتسترق نساؤهم وذراريهم ، ولا يجبرون على الإسلام ، وهم في ذلك بمنزلة المرتدين إلا في حكم الإجبار على الإسلام ، فإن نساء المرتدين وذراريهم كانوا مسلمين في الأصل فيجبرون على العود ، وأما النساء والذراري [ ص: 118 ] من مشركي العرب ما كانوا مسلمين في الأصل فلا يجبرون على الإسلام ، ولكنهم يسترقون { ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم سبى النساء ، والذراري بأوطاس ، وقسمهم } ، وقد بينا أن أبا بكر رضي الله عنه سبى النساء والذراري من بني حنيفة ، فإذا جاز ذلك في المرتدين ففي مشركي العرب أولى ، وأما الرجال منهم لا يسترقون عندنا ، وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يسترقون ; لأن المعنى الذي لأجله جاز الاسترقاق في حق سائر الكفار موجود في حق مشركي العرب ، وهو منفعة للمسلمين في عملهم وخدمتهم ، ولأن الاسترقاق إتلاف حكمي ، ومن جاز في حقه الإتلاف الحقيقي من الكفار الأصليين يجوز الإتلاف الحكمي بطريق الأولى ; لأن فيه تحقيق معنى العقوبة بتبديل صفة المالكية بالمملوكية ، وهو الأليق بحال كل كافر ، فإنهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى عاقبهم على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده ، وهكذا كان ينبغي في المرتدين إلا أن قتل المرتد على ردته حد فقلنا لا يترك إقامة الحد لمنفعة المسلمين ، ولأن حريته كانت متأكدة بالإسلام فلا يحتمل النقض بالاسترقاق ، وذلك لا يوجد في حق مشركي العرب ( وحجتنا ) في ذلك قوله تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون } قيل معناه إلى أن يسلموا ، والآية فيمن كان يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم عبدة الأوثان من العرب فدل أنهم يقتلون إن لم يسلموا .

وقال صلى الله عليه وسلم : { لا رق على عربي } ، وقال يوم أوطاس { لو جرى رق على عربي لكان اليوم ، وإنما هو القتل أو الإسلام } ، وظاهر قوله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا } يدل على تحريم الاسترقاق كما يدل على المنع من المفاداة ; لأن المقصود بكل واحد منهما ابتغاء عرض الدنيا ، ولأنه لا يقبل منهم عقد الذمة بالاتفاق ، والاسترقاق والذمة يتقاربان في المعنى ; لأن في كل واحد من الأمرين إبقاء الكافر على كفره لمنفعة المسلمين في ذلك من مال أو عمل ، وفي الجزية معنى الصغار ، والعقوبة في حقهم كما في الاسترقاق بل أظهر ، والاسترقاق ثابت في حق النساء والصغار ، والجزية لا تجب إلا على الرجال البالغين ، فإذا لم يجز إبقاء عبدة الأوثان من العرب على الشرك بالجزية فكذلك بالاسترقاق ، وقد بينا أنهم في تغلظ جنايتهم كالمرتدين ، فكما لا يسترق المرتدون فكذلك عبدة الأوثان من العرب ، بخلاف سائر المشركين وأهل الكتاب من العرب حكمهم حكم غيرهم من أهل الكتاب حتى يجوز استرقاقهم ، وأخذ الجزية منهم ; لأنهم ليسوا من العرب في الأصل ، وإن توطنوا في أرض العرب بل هم في الأصل من [ ص: 119 ] بني إسرائيل ، ولئن كانوا في الأصل من العرب فجنايتهم في الغلظ ليست كجناية عبدة الأوثان فإن أهل الكتاب يدعون التوحيد ، ولهذا تؤكل ذبائحهم ، وتجوز مناكحة نسائهم بخلاف عبدة الأوثان ، والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من يهود تيماء ، ووادي القرى ، وكذلك من بهز ، وتنوخ ، وطيء وعمر رضي الله عنه أراد أن يوظف الجزية على نصارى بني تغلب ثم صالحهم على الصدقة المضعفة ، وقال هذه جزية فسموها ما شئتم ، وكانوا من العرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية