الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فإن أبى المرتد أن يسلم فقتل كان ميراثه بين ورثته المسلمين على فرائض الله تعالى في قول علمائنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى ماله فيء يوضع في بيت مال المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يرث المسلم الكافر } ، والمرتد كافر فلا يرثه المسلم ، ولأن المرتد لا يرث أحدا فلا يرثه أحد كالرقيق يوضحه أنه لا يرثه من يواقفه في الملة ، والموافقة في الملة سبب التوريث ، والمخالفة في الملة سبب الحرمان ، فلما لم يرثه من يوافقه في الملة مع وجود سبب التوريث فلأن لا يرثه من يخالفه في الملة أولى ، وإذا انتفى التوريث عن ماله فهو في أحد الوجهين ; لأنه مال حربي لا أمان له فيكون فيئا للمسلمين ، وفي الوجه الآخر هو مال ضائع فمصيبه بيت المال كالذمي إذا مات ، ولا وارث له من الكفار يوضع ماله في بيت المال ( وحجتنا ) في ذلك ظاهر قوله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } والمرتد هالك ; لأنه ارتكب جريمة استحق بها نفسه فيكون هالكا { ، ولما مات عبد الله بن أبي ابن سلول جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله لورثته المسلمين } ، وهو كان مرتدا ، وإن كان منافقا فقد شهد الله بكفره بعد الإيمان ، وفيه نزل قوله تعالى { إن الذين آمنوا ثم كفروا } ، وإن عليا رضي الله عنه قتل المستورد العجلي على الردة ، وقسم ماله بين ورثته المسلمين ، وذلك مروي عن ابن مسعود ومعاذ رضي الله تعالى عنهما ، والمعنى فيه أنه كان مسلما مالكا لماله فإذا تم هلاكه يخلفه وارثه في ماله كما لو مات المسلم ، وتحقيق هذا الكلام أن الردة هلاك ، فإنه يصير به حربا ، وأهل الحرب في حق المسلمين كالموتى إلا أن تمام هلاكه حقيقة بالقتل أو الموت ، فإذا تم ذلك استند التوريث إلى أول الردة ، وقد كان مسلما عند ذلك [ ص: 101 ] فيخلفه وارثه المسلم في ماله ، ويكون هذا توريث المسلم من المسلم ، وهذا لأن الحكم عند تمام سببه يثبت من أول السبب كالبيع بشرط الخيار إذا أجيز يثبت الملك من وقت العقد حتى يستحق المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة جميعا ، فعلى هذا الطريق يكون فيه توريث المسلم من المسلم .

( فإن قيل : ) زوال ملكه إما أن يكون قبل الردة أو معها أو بعدها ، والحكم لا يسبق السبب ولا يقترن به بل يعقبه ، وبعد الردة هو كافر ( قلنا ) نعم المزيل للملك ردته كما أن المزيل للملك موت المسلم ثم الموت يزيل الملك عن الحي لا عن الميت فكذلك الردة تزيل الملك عن المسلم ، وكما أن الردة تزيل ملكه فكذلك تزيل عصمة نفسه ، وإنما تزيل العصمة عن معصوم لا عن غير معصوم فعرفنا أنه يتحقق بهذا الطريق توريث المسلم من المسلم ، ولهذا لا يرثه ورثته الكفار ; لأن التوريث من المسلم ، والكافر لا يرث المسلم ، وهو دليلنا ، فإنه كان تعلق بإسلامه حكمان : حرمان ورثته الكفار ، وتوريث ورثته المسلمين ، ثم بقي أحد الحكمين بعد ردته باعتبار أنه مبقي على حكم الإسلام فكذلك الحكم الآخر ، وإنما لا يرث المرتد أحدا لجنايته ، فهو كالقاتل لا يرث المقتول لجنايته ، ويرثه المقتول لو مات القاتل قبله ، ولأنه لا وجه لجعل ماله فيئا ، فإن هذا المال كان محرزا بدار الإسلام ، ولم يبطل ذلك الإحراز بردته حتى لا يغنم في حياته ، والمال المحرز بدار الإسلام لا يكون فيئا ، وبهذا تبين ثبوت حق الورثة فيه ; لأنه إنما لا يغنم في حياته لا لحقه ، فإنه لا حرمة له بل لحق الورثة فكذلك بعد موته ، وإن قال : يوضع في بيت المال ليكون للمسلمين باعتبار أنه مال ضائع ( قلنا ) المسلمون يستحقون ذلك بالإسلام ، وورثته ساووا المسلمين في الإسلام ، وترجحوا عليهم بالقرابة ، وذو السببين مقدم في الاستحقاق على ذي سبب واحد ، فكان الصرف إليهم أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية