المبحث الأول
بين علم الفقه وعلم الاقتصاد الإسلامي
لا شك أنه يوجد ارتباط بين علم الفقه، وعلم الاقتصاد الإسلامي، هـذه حقيقة. لكن علم الاقتصاد الإسلامي ليس هـو علم الفقه. وهذا ما أراه يمثل الحقيقة الثانية.
سأحاول في هـذا المبحث تحديد موضوع علم الاقتصاد الإسلامي، مقارنا بموضوع علم الفقه. وما أعرضه هـو رأي، ولعلي بهذا الرأي أثير الحوار حول هـذا الموضوع، وهذا الحوار ـ إن حدث ـ يثري هـذه الفكرة، ولعله يصل بنا إلى اتفاق، أو على الأقل إلى نوع اتفاق حول هـذا الموضوع.
أولا: الكتابة عن الاقتصاد الإسلامي فيها مرحلتان، أو تمر بمرحلتين:
المرحلة الأولى: هـي المرحلة التي يتم فيها التعرف على الحكم الفقهي.
المرحلة الثانية: هـي المرحلة التي يتم فيها التعرف على الواقعة أو الظاهرة الاقتصادية التي ينشئها الحكم الفقهي.
المرحلة الأولى: هـذه المرحلة يبحث فيها عن الحكم الفقهي (المتعلق بالاقتصاد والمال ) . ومادام أن الحكم هـنا هـو المطلوب، فإن هـذه المرحلة تقع في نطاق علم الفقه لأنه العلم الذي يبحث فيه عن الأحكام الفقهية ويعرف بأنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، أو هـو مجموعة من الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية [1] . [ ص: 24 ]
وباعتبار أن هـذه المرحلة، موضوعها الأحكام التي يعطيها علم الفقه، لذلك تسمى هـذه المرحلة باسم مرحلة الفقه الاقتصادي والمالي.
المرحلة الثانية: الحكم الفقهي المتعلق بالاقتصاد والمال ينشيء واقعة، أو ظاهرة اقتصادية. تحديد هـذه الظاهرة الاقتصادية، والتعرف عليها، وتحليلها (اقتصاديا ) والعمل عليها (بسياسات اقتصادية) ، كل هـذا وغيره يكون المرحلة الثانية في الاقتصاد الإسلامي.
وباعتبار أن هـذه المرحلة موضوعها الظاهرة الاقتصادية (التي ينشئها الحكم الفقهي) ، أي دراسة اقتصادية وليست دراسة فقهية، لذلك أقترح أن تسمى هـذه المرحلة باسم مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي. فهذه مرحلة علم اقتصاد، لأنها تبحث في الواقعة أو الظاهرة الاقتصادية (تحليلا) ، وعلم اقتصاد إسلامي لأن الواقعة أو الظاهرة الاقتصادية، موضوع البحث، أنشأها الفقه الإسلامي.
ثانيا: ما تقدم تبنى عليه نتائج، إنه يعني أن علم الفقه (الاقتصادي والمالي) ، وعلم الاقتصاد الإسلامي ليسا مصطلحين بمعنى واحد، وإنما هـما مرحلتان تكونان الاقتصاد الإسلامي، المرحلة الفقهية والمرحلة الاقتصادية.
وللتميز على نحو أوضح بين هـذين العلمين الإسلاميين. علم الفقه (الاقتصادي ) وعلم الاقتصاد الإسلامي أقترح المعيار الآتي:
موضوع علم الفقه (الاقتصادي) : هـو إعمال العقل في الدليل لاستنباط الحكم الذي يحكم الظاهرة الاقتصادية.
وموضوع علم الاقتصاد الإسلامي: هـو إعمال العقل في الحكم الذي حصلنا عليه لتحديد الظاهرة الاقتصادية، التي ينشئها الحكم، وتحليلها، والتأثير فيها، والتنبؤ بها.
ويترتب على هـذا، التمييز بين من هـو فقيه له الصلاحية في أن يبحث عن الحكم الفقهي، ومن هـو اقتصادي له الصلاحية في أن يبحث في [ ص: 25 ] الظاهرة الاقتصادية التي ينشئها الحكم الفقهي. إن من له الصلاحية في البحث عن الحكم الفقهي يخضع للشروط التي ذكرها علماء أصول الفقه، في من له حق الاجتهاد، وأما من له الصلاحية في أن يبحث الظاهرة الاقتصادية التي ينشئها الحكم الفقهي، فيشترط فيه أن يكون قادرا ـ كحد أدنى ـ على قراءة وفهم الفقه الذي يكتب عن اقتصاده، ويضاف إلى هـذا المعرفة الاقتصادية.
ثالثا: أقدم بعد الأمثلة أو النماذج، وأحاول من خلالها شرح هـاتين المرحلتين في الاقتصاد الإسلامي والتمييز بينهما.
1- الربا : تعريف الربا وحكمه، ودليل الحكم، وتحديد المعاملات الربوية، وكل ما يناقشه الفقهاء عندما يكون الربا موضوع البحث، هـذه العناصر كلها هـي مرحلة الفقه لهذا الموضوع الاقتصادي، أي مرحلة الفقه الاقتصادي.
مرحلة الفقه الاقتصادي تعطي حكما، وهذا الحكم ينشئ واقعة اقتصادية أو يكون له آثاره على الواقع والمتغيرات الاقتصادية، من أمثلة ذلك أن تحريم الربا له أثره على عرض النقود، لأنه بإعمال تحريم الربا فإن المصارف التجارية لا تصدر نقودا، وهكذا البعد في دراسة الربا لا يمكن اعتباره فقها، وإنما هـو أثر اقتصادي للفقه. لذلك فإنه يدخل فيما أسميه مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي.
2- الاستهلاك: تكلم الفقهاء عن استهلاك المسلم للسلع والخدمات سواء باستخدام هـذا المصطلح، أو بمصطلحات أخرى.
وأذكر مثالا مما قاله الفقهاء عن هـذا الموضوع. يقول الإمام الشيباني : " المسألة " : (أي الإشباع ) على أربعة أوجه: ففي مقدار ما يسد به رمقه، ويتقوى على الطاعة، هـو مثاب غير معاقب؛ وفيما زاد على ذلك إلى حد الشبع هـو مباح له محاسب على ذلك حسابا يسيرا بالعرض؛ وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هـو مرخص له، محاسب على [ ص: 26 ] ذلك، مطالب بشكر النعمة، وحق الجائعين؛ وفيما زاد على الشبع فإن الأكل فوق الشبع حرام. [2] .
هذا الذي قاله الإمام الشيباني هـو من فقه الاستهلاك في الإسلام، وهو بهذا يدخل في الاقتصاد الإسلامي في مرحلة الفقه (الاقتصادي والمالي) ، أي في المرحلة التي نبحث فيها عن الحكم، أو الأحكام (المنظمة لتصرفات المسلم الاستهلاكية) .
هذه الأحكام المنظمة للاستهلاك تنشئ واقعة اقتصادية، أو تعكس نفسها في المتغيرات والظواهر الاقتصادية. دراسة هـذه الوقائع والمتغيرات الاقتصادية التي أنشأها الحكم الفقهي، أو تأثرت به، تدخل في المرحلة التي نقترح تسميتها باسم علم الاقتصاد الإسلامي. وفي هـذه المرحلة تكون اللغة التي نتكلم بها هـي اللغة الاقتصادية، نستخدم الأسلوب الرياضي أو نستخدم أسلوب الرسوم البيانية، أو نستخدم الفروض للوصول إلى تكوين نظرية اقتصادية.
رابعا: فهم الاقتصاد الإسلامي على هـذا النحو، أي على أن فيه مرحلتين: مرحلة الفقه (الاقتصادي والمالي ) ، ومرحلة علم الاقتصاد الإسلامي، يجعلنا نصل إلى رأي فيما يتعلق بالاقتصاد الإسلامي. مقارنا بعلم الفقه.
إن علم الاقتصاد (الوضعي ) يخضع للتطور الإلغائي الإحلالي المستمر. بمعنى أنه في زمن معين يصل الاقتصاديون إلى نظرية اقتصادية يعتقدون في صحتها، وبعد فترة زمنية معينة، وبسبب التغيرات في الحياة الاقتصادية، وبسبب تراكم المعارف الاقتصادية، يكتشف الاقتصاديون أن النظرية التي سبق أن سلم بصحتها منتقدة، وبهذا يخرجون عليها ويحلون نظرية أخرى محلها. والاقتصاد (الوضعي ) بهذا يخضع لقاعدة الإلغاء والإحلال، وبسبب أنه يعتقد أن النظرية الحديثة أرقى من النظرية [ ص: 27 ] القديمة، بهذا يكون الاقتصاد (الوضعي) يخضع للتطور الإلغائي الإحلالي الارتقائي.
إن تحديد طبيعة التطور التي يمكن تصورها، أو قبولها في الاقتصاد الإسلامي من القضايا المثارة، والتي تتعدد الآراء فيها، بل قد تتباين.
ودون الدخول في تفصيلات هـذه القضية، فإن ما ذكرته من وجود مرحلتين في الاقتصاد الإسلامي يجعلنا نصل إلى رأى في هـذه القضية. إن مرحلة الفقه الاقتصادي والمالي لا تخضع لقاعدة التطور الإلغائي الإحلالي. وهذا لا يصادر قدرة الفقه على أن يسع المستجدات، بحيث يعطي لها حكما، كما لا يصادر قاعدة المرونة التي نتكلم عنها في فقه المعاملات .
أما مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي، فبسبب أنها تصور عقلي، أو استنباط عقلي لما يمكن أن يترتب على هـذا الحكم في الظواهر والمتغيرات الاقتصادية وبسبب أن هـذا التصور العقلي الاقتصادي يتأثر بالتطور في الحياة الاقتصادية، وبسبب أن هـذا التصور العقلي يتأثر بالمعارف الاقتصادية وتراكمها عند الإنسان، بسبب كل ذلك فإن ما يقال في هـذه المرحلة يقبل فيه إعمال التطور الإلغائي الإحلالي والارتقائي وهذا لا يصادر ثبات الأحكام الفقهية.
خامسا: الكتب التي نعتبرها ممثلة للتراث الاقتصادي الإسلامي تثبت الرأي الذي سبق، وهو أن الاقتصاد الإسلامي يتكون من مرحلتين هـما مرحلة الفقه (الاقتصادي والمالي ) ومرحلة علم الاقتصاد. ذلك أنه وصل إلينا من التراث كتب تدخل في مرحلة الفقه، وكتب تدخل في مرحلة علم الاقتصاد.
من الكتب التي تدخل في مرحلة الفقه (الاقتصادي والمالي) كتاب الخراج لأبي يوسف، وكتاب الأموال لأبي عبيد ، والكسب للشيباني .
وهذا النوع من الكتب معروف ومشهور ولهذا لا نتوقف عنده طويلا.
ومن كتب التراث التي تدخل في مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي كتاب [ ص: 28 ] الإشارة إلى محاسن التجارة للدمشقي، وكتاب الفلاكة والمفلكون للدلجي ، وكتاب المقدمة لابن خلدون .
هذا النوع الثاني من الكتب ليست له شهرة النوع الأول. كما أن طبيعة مساهمته في الاقتصاد الإسلامي ليست واضحة. لهذا أعطي مثالا من هـذه الكتب أوضح من خلاله كيفية دخول ما جاء في هـذه الكتب إلى الاقتصاد الإسلامي، أو بعبارة أدق إلى علم الاقتصاد الإسلامي.
كتب الدمشقي في كتابه " الإشارة إلى محاسن التجارة " [3]
وهو بصدد الحديث عن وظائف النقود ما يلي: جعل الناس الذهب والفضة ثمنا لسائر الأشياء، فاصطلحوا على ذلك ليشتري الإنسان حاجته في وقت إرادته وليكون من حصل له هـذان الجوهران أن كل الأنواع التي يحتاج إليها حاصلة في يده مجموعة متى شاء (ص 23 ) .
هذا أنموذج مما كتبه الدمشقي. وهذا النوع من الكتابة لا نستطيع أن نعتبره كتابة فقهية، أي في علم الفقه، فليست هـذه لغة الكتابة في علم الفقه، ولا هـذا هـو منهج علم الفقه، ولهذا لا ندخل ما قاله الدمشقي في الاقتصاد الإسلامي على أنه في مرحلة الفقه.
لكن ما قال الدمشقي لا يعارض حكما فقهيا، والدمشقي كتب عن موضوع اقتصادي مما يدخل في علم الاقتصاد، لهذا فإن ما قاله الدمشقي يدخل في الاقتصاد الإسلامي في مرحلة علم الاقتصاد الإسلامي.
ما قلته عما كتبه الدمشقي عن وظائف النقود يعمم على كل ما قاله الدمشقي في كتابه المشار إليه، وكذا على الكتب التي تماثله. [ ص: 29 ]