[ ص: 321 ] كان طسم بن لوذ بن إرم بن سام بن نوح ، وجديس بن عامر بن أزهر بن سام ابني عم ، وكانت مساكنهم موضع اليمامة ، وكان اسمها حينئذ جوا ، وكانت من أخصب البلاد وأكثرها خيرا ، وكان ملكهم أيام ملوك الطوائف عمليق ، وكان ظالما قد تمادى في الظلم والغشم والسيرة الكثيرة القبح ، وإن امرأة من جديس يقال لها هزيلة طلقها زوجها وأراد أخذ ولدها منها فخاصمته إلى عمليق وقالت : أيها الملك حملته تسعا ، ووضعته دفعا ، وأرضعته شفعا ، حتى إذا تمت أوصاله ، ودنا فصاله ، أراد أن يأخذه مني كرها ، ويتركني بعده ورها . فقال زوجها : أيها الملك إنها أعطيت مهرها كاملا ، ولم أصب منها طائلا ، إلا وليدا خاملا ، فافعل ما كنت فاعلا . فأمر الملك بالغلام فصار في غلمانه ، وأن تباع المرأة وزوجها فيعطى الزوج خمس ثمنها وتعطى المرأة عشر ثمن زوجها ، فقالت هزيلة :
أتينا أخا طسم ليحكم بيننا فأنفذ حكما في هزيلة ظالما لعمري لقد حكمت لا متورعا
ولا كنت فيمن يبرم الحكم عالما ندمت ولم أندم وأنى بعترتي
وأصبح بعلي في الحكومة نادما
فلما سمع عمليق قولها ، أمر أن لا تزوج بكر من جديس وتهدى إلى زوجها حتى [ ص: 322 ] يفترعها ، فلقوا من ذلك بلاء وجهدا وذلا ، ولم يزل يفعل ذلك حتى زوجت الشموس ، وهي عفيرة بنت عباد أخت الأسود ، فلما أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله ، ومعها الفتيان ، فلما دخلت عليه افترعها وخلى سبيلها ، فخرجت إلى قومها في دمائها وقد شقت درعها من قبل ودبر والدم يبين وهي في أقبح منظر تقول :
لا أحد أذل من جديس أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا قوم بعل حر أهدى وقد أعطى وسيق المهر
وقالت أيضا لتحرض قومها :
أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم وأنتم رجال فيكم عدد النمل
وتصبح تمشي في الدماء عفيرة جهارا وزفت في النساء إلى بعل
ولو أننا كنا رجالا وكنتم نساء لكنا لا نقر بذا الفعل
فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإلا فخلوا بطنها وتحملوا إلى بلد قفر وموتوا من الهزل
فللبين خير من مقام على الأذى وللموت خير من مقام على الذل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
[ ص: 323 ] ودونكم طيب النساء فإنما خلقتم لأثواب العروس وللغسل
فبعدا وسحقا للذي ليس دافعا ويختال يمشي بيننا مشية الفحل
فلما سمع أخوها الأسود قولها ، وكان سيدا مطاعا ، قال لقومه : يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم إلا بملك صاحبهم علينا وعليهم ، ولولا عجزنا لما كان له فضل علينا ، ولو امتنعنا لانتصفنا منه ، فأطيعوني فيما آمركم فإنه عز الدهر .
وقد حمي جديس لما سمعوا من قولها فقالوا : نطيعك ولكن القوم أكثر منا ! قال : فإني أصنع للملك طعاما وأدعوه وأهله إليه ، فإذا جاءوا يرفلون في الحلل أخذنا سيوفنا وقتلناهم . فقالوا : افعل . فصنع طعاما فأكثر وجعله بظاهر البلد ودفن هو وقومه سيوفهم في الرمل ودعا الملك وقومه ، فجاءوا يرفلون في حللهم ، فلما أخذوا مجالسهم ومدوا أيديهم يأكلون ، أخذت جديس سيوفهم من الرمل وقتلوهم وقتلوا ملكهم وقتلوا بعد ذلك السفلة .
ثم إن بقية طسم قصدوا حسان بن تبع ملك اليمن فاستنصروه ، فسار إلى اليمامة ، فلما كان منها على مسيرة ثلاث قال له بعضهم : إن لي أختا متزوجة من جديس يقال لها اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاث ، وإني أخاف أن تنذر القوم بك ، فمر أصحابك فليقطع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه .
فأمرهم حسان بذلك ، فنظرت اليمامة فأبصرتهم فقالت لجديس : لقد سارت إليكم حمير . قالوا : وما ترين ؟ قالت : أرى رجلا في شجرة معه كتف يتعرقها أو نعل يخصفها ، وكان كذلك ، فكذبوها ، فصبحهم حسان فأبادهم ، وأتي حسان باليمامة ففقأ عينها ، فإذا فيها عروق سود ، فقال : ما هذا ؟ قالت : حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد ، وكانت أول من اكتحل به . وبهذه اليمامة سميت اليمامة ، وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم .
[ ص: 324 ] ولما هلكت جديس هرب الأسود قاتل عمليق إلى جبلي طيء فأقام بهما ، ذلك قبل أن تنزلهما طيء ، وكانت طيء تنزل الجرف من اليمن ، وهو الآن لمراد وهمدان . وكان يأتي إلى طيء بعير أزمان الخريف عظيم السمن ويعود عنهم ، ولم يعلموا من أين يأتي ، ثم إنهم اتبعوه يسيرون بسيره حتى هبط بهم على أجأ وسلمى جبلي طيء ، وهما بقرب فيد ، فرأوا فيهما النخل والمراعي الكثيرة ورأوا الأسود بن عفار ، فقتلوه ، وأقامت طيء بالجبلين بعده ، فهم هناك إلى الآن ، وهذا أول مخرجهم إليهما .