[ ص: 131 ] ( 539 )
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة
ذكر الرها وغيرها من بلاد الجزيرة مما كان بيد الفرنج فتح
في هذه السنة سادس جمادى الآخرة ، فتح مدينة أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر الرها من الفرنج ، وفتح غيرها من حصونهم بالجزيرة أيضا ، وكان ضررهم قد عم بلاد الجزيرة ، وشرهم قد استطار فيها ، ووصلت غاراتهم إلى أدانيها وأقاصيها ، وبلغت آمد ، ونصيبين ورأس عين ، والرقة .
وكانت مملكتهم بهذه الديار من قريب ماردين إلى الفرات مثل الرها ، وسروج ، والبيرة ، وسن ابن عطير ، وحملين ، والموزر ، والقرادي وغير ذلك .
وكانت هذه الأعمال مع غيرها مما هو غرب الفرات لجوسلين ، وكان صاحب رأي الفرنج والمقدم على عساكرهم ، لما هو عليه من الشجاعة والمكر .
وكان أتابك يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع فيها من الفرنج من يمنعها ، فيتعذر عليه ملكها لما هي عليه من الحصانة ، فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ لقصد بلادهم . فلما رأوا أنه غير قادر على ترك الملوك الأرتقية وغيرهم من ملوك ديار بكر ، حيث إنه محارب لهم ، اطمأنوا ، وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاد الغربية ، فجاءت عيون أتابك إليه فأخبرته فنادى في العسكر بالرحيل ، وأن لا يتخلف عن الرها أحد من غد يومه ، وجمع الأمراء عنده ، وقال : قدموا الطعام ; وقال : لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن غدا معي على باب [ ص: 132 ] الرها ، فلم يتقدم إليه غير ( أمير ) واحد وصبي لا يعرف ، لما يعلمون من إقدامه وشجاعته ، وأن أحدا لا يقدر على مساواته في الحرب . فقال الأمير لذلك الصبي : ما أنت في هذا المقام ؟ فقال أتابك : دعه ، فوالله إني أرى وجها لا يتخلف عني .
وسار والعساكر معه ، ووصل إلى الرها ، وكان هو أول من حمل على الفرنج ومعه ذلك الصبي ، وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك عرضا ، فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله ، وسلم الشهيد ، ونازل البلد ، وقاتله ثمانية وعشرين يوما ، فزحف إليه عدة دفعات ، وقدم النقابين فنقبوا سور البلد ، ولج في قتاله خوفا من اجتماع الفرنج والمسير إليه واستنقاذ البلد منه ، فسقطت البدنة التي نقبها النقابون ، [ وأخذ ] البلد عنوة وقهرا ، وحصر قلعته فملكها أيضا ، ونهب الناس الأموال وسبوا الذرية وقتلوا الرجال .
فلما رأى أتابك البلد أعجبه ، ورأى أن تخريب مثله لا يجوز في السياسة ، فأمر فنودي في العساكر برد من أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم ، وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم ، فردوا الجميع عن آخره لم يفقد منهم أحد ، إلا الشاذ النادر الذي أخذ ، وفارق ( من أخذه ) العسكر ، فعاد البلد إلى حاله الأول ، وجعل فيه عسكرا يحفظه ، وتسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات ، ما عدا البيرة ، فإنها حصينة منيعة وعلى شاطئ الفرات ، فسار إليها وحصرها ، وكانوا قد أكثروا ميرتها ورجالها ، فبقي على حصارها إلى أن رحل عنها ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى .
حكي أن بعض العلماء بالأنساب والتواريخ قال : كان صاحب جزيرة صقلية قد [ ص: 133 ] أرسل سرية في البحر إلى طرابلس الغرب وتلك الأعمال ، فنهبوا وقتلوا ; وكان بصقلية إنسان من العلماء المسلمين ، وهو من أهل الصلاح ، وكان صاحب صقلية يكرمه ويحترمه ، ويرجع إلى قوله ، ويقدمه على من عنده من القسوس والرهبان ; وكان أهل ولايته يقولون إنه مسلم بهذا السبب .
ففي بعض الأيام كان جالسا في منظرة له تشرف على البحر ، وإذ قد أقبل مركب لطيف ، وأخبره من فيه أن عسكره دخلوا بلاد الإسلام ، وغنموا وقتلوا وظفروا ; وكان المسلم إلى جانبه وقد أغفى ، فقال له الملك : يا فلان ! أما تسمع ما يقولون ؟ قال : لا ! قال : إنهم يخبرون بكذا وكذا . أين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها ؟ فقال له : كان قد غلب عنهم ، وشهد فتح الرها ، وقد فتحها المسلمون الآن ; فضحك منه من هناك من الفرنج ، فقال الملك : لا تضحكوا ، فوالله ما يقول إلا الحق ; فبعد أيام وصلت الأخبار من فرنج الشام بفتحها .
وحكى لي جماعة من أهل الدين والصلاح أن إنسانا صالحا رأى الشهيد في منامه ، فقال له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي بفتح الرها .