ذكر كسرى أبرويز بن هرمز ملك
وكان من أشد ملوكهم بطشا ، وأنفذهم رأيا ، وبلغ من البأس والنجدة وجمع الأموال ومساعدة الأقدار ما لم يبلغه ملك قبله ، ولذلك لقب أبرويز ، ومعناه المظفر ، وكان في حياة أبيه قد سعى به بهرام جوبين إلى أبيه أنه يريد الملك لنفسه ، فلما علم ذلك سار إلى أذربيجان سرا ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدم ، فلما وصلها بايعه من كان بها من العظماء ، واجتمع من بالمدائن على خلع أبيه ، فلما سمع أبرويز بادر الوصول إلى المدائن قبل بهرام جوبين ، فدخلها قبله ولبس التاج وجلس على السرير ، ثم دخل على أبيه ، وكان قد سمل ، فأعلمه أنه بريء مما فعل به ، وإنما كان هربه للخوف منه ، فصدقه وسأله أن يرسل إليه كل يوم من يؤنسه ، وأن ينتقم ممن خلعه وسمل عينيه ، فاعتذر بقرب بهرام منه في العساكر وأنه لا يقدر على أن ينتقم ممن فعل به ذلك إلا بعد الظفر ببهرام .
وسار بهرام إلى النهروان وسار أبرويز إليه ، فالتقيا هناك ، ورأى أبرويز من أصحابه فتورا في القتال فانهزم ، ودخل على أبيه وعرفه الحال ، فاستشاره فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم ، وجهز ثانيا وسار في عدة يسيرة ، فيهم خالاه بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام ، فلما خرجوا من المدائن خاف من معه أن بهرام يرد هرمز إلى الملك [ ص: 429 ] ويرسل إلى ملك الروم في ردهم فيردهم إليه ، فاستأذنوا أبرويز في قتل أبيه هرمز فلم يحر جوابا ، فانصرف بندويه وبسطام وبعض من معهم إلى هرمز فقتلوه خنقا ، ثم رجعوا إلى أبرويز وساروا مجدين إلى أن جاوزوا الفرات ، ودخلوا ديرا يستريحون فيه ، فلما دخلوا غشيتهم خيل بهرام جوبين ومقدمها رجل اسمه بهرام بن سياوش ، فقال بندويه لأبرويز : احتل لنفسك . قال : ما عندي حيلة ! قال بندويه : أنا أبذل نفسي دونك ، وطلب منه بزته فلبسها ، وخرج أبرويز ومن معه من الدير وتواروا بالجبل ، ووافى بهرام الدير فرأى بندويه فوق الدير وعليه بزة أبرويز ، فاعتقده هو وسأله أن ينظره إلى غد ليصير إليه سلما ، ففعل ، ثم ظهر من الغد على حيلته فحمله إلى بهرام جوبين فحبسه ، ودخل بهرام جوبين دار الملك وقعد على السرير ولبس التاج ، فانصرفت الوجوه عنه ، لكن الناس أطاعوه خوفا ، وواطأ بهرام بن سياوش بندويه على الفتك ببهرام جوبين ، فعلم بهرام جوبين بذلك فقتل بهرام وأفلت بندويه فلحق بأذربيجان .
وسار أبرويز إلى أنطاكية ، وأرسل أصحابه إلى الملك ، فوعده النصرة وتزوج أبرويز ابنة الملك موريق ، واسمها مريم ، وجهز معه العساكر الكثيرة ، فبلغت عدتهم سبعين ألفا فيهم رجل يعد بألف مقاتل ، فرتبهم أبرويز وسار بهم إلى أذربيجان ، فوافاه بندويه وغيره من المقدمين والأساورة في أربعين ألف فارس من أصبهان وفارس وخراسان ، وسار إلى المدائن . وخرج بهرام جوبين نحوه ، فجرى بينهما حرب شديدة ، فقتل فيها الفارس الرومي الذي يعد بألف فارس .
ثم انهزم بهرام جوبين ، وسار إلى الترك ، وسار أبرويز من المعركة ودخل المدائن وفرق الأموال في الروم ، فبلغت جملتها عشرين ألف ألف فأعادهم إلى بلادهم .
وأقام بهرام جوبين عند الترك مكرما ، فأرسل أبرويز إلى زوجة الملك ، وأجزل لها الهدية من الجواهر وغيرها ، وطلب منها قتل بهرام ، فوضعت عليه من قتله ، فاشتد قتله على ملك الترك ، ثم علم أن زوجته قتلته فطلقها . ثم إن أبرويز قتل بندويه ، وأراد قتل بسطام فهرب منه إلى طبرستان لحصانتها ، فوضع أبرويز عليه فقتله .
وأما الروم فإنهم خلعوا ملكهم موريق بعد أربع عشرة سنة من ملك أبرويز ، وقتلوه وملكوا عليهم بطريقا اسمه فوقاس ، فأباد ذرية موريق سوى ابن له هرب إلى [ ص: 430 ] ، فأرسل معه العساكر وتوجه وملكه على كسرى أبرويز الروم وجعل على عساكره ثلاثة نفر من قواده وأساورته .
أما أحدهم فكان يقال له بوران ، وجهه في جيش منها إلى الشام ، فدخلها حتى دخل إلى البيت المقدس ، فأخذ خشبة الصليب التي تزعم النصارى أن المسيح - عليه السلام - صلب عليها فأرسلها إلى . كسرى أبرويز
وأما القائد الثاني فكان يقال له شاهين ، فسيره في جيش آخر إلى مصر ، فافتتحها وأرسل مفاتيح الإسكندرية إلى أبرويز .
وأما القائد الثالث ، وهو أعظمهم ، فكان يقال له فرخان ، وتدعى مرتبته شهربراز ، وجعل مرجع القائدين الأولين إليه .
وكانت والدته منجبة لا تلد إلا نجيبا ، فأحضرها أبرويز وقال لها : إني أريد أن أوجه جيشا إلى الروم ، أستعمل عليه بعض بنيك ، فأشيري علي أيهم أستعمل ؟ . فقالت : أما فلان فأروغ من ثعلب ، وأحذر من صقر ، وأما فرخان فهو أنفذ من سنان ، وأما شهربراز فهو أحلم من كذا .
فقال : قد استعملت الحليم ، فولاه أمر الجيش ، فسار إلى الروم فقتلهم ، وخرب مدائنهم ، وقطع أشجارهم ، وسار في بلادهم إلى القسطنطينية ، حتى نزل على خليجها القريب منها ينهب ويغير ويخرب ، فلم يخضع لابن موريق أحد ولا أطاعه ، غير أن الروم قتلوا فوقاس لفساده وملكوا عليهم بعده هرقل ، وهو الذي أخذ المسلمون الشام منه .
فلما رأى هرقل ما أهم الروم من النهب والقتل والبلاء تضرع إلى الله تعالى ودعاه ، فرأى في منامه رجلا كث اللحية رفيع المجلس عليه بزة حسنة ، فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل : إني قد أسلمته في يدك ، فاستيقظ ، فلم [ ص: 431 ] يقص رؤياه ، فرأى في الليلة الثانية ذلك الرجل جالسا في مجلسه ، وقد دخل الرجل الثالث وبيده سلسلة ، فألقاها في عنق ذلك الرجل وسلمه إلى هرقل وقال : قد دفعت إليك برمته فاغزه ، فإنك مدال عليه ، وبالغ أمنيتك في أعدائك . فقص حينئذ هذه الرؤيا على عظماء كسرى الروم ، فأشاروا عليه أن يغزوه ، فاستعد هرقل وأخلف ابنا له على القسطنطينية ، وسلك غير الطريق الذي عليه شهربراز ، وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية ، وقصد الجزيرة فنزل نصيبين ، فأرسل إليه جندا وأمرهم بالمقام كسرى بالموصل ، وأرسل إلى شهربراز يستحثه على القدوم ليتضافرا على قتال هرقل .
وقيل في مسيره غير هذا ، وهو أن شهربراز سار إلى بلاد الروم فوطئ الشام حتى وصل إلى أذرعات ، ولقي جيوش الروم بها فهزمها وظفر بها وسبى وغنم وعظم شأنه .
ثم إن فرخان أخا شهربراز شرب الخمر يوما وقال : لقد رأيت في المنام كأني جالس على سرير ، فبلغ الخبر كسرى فكتب إلى أخيه كسرى شهربراز يأمره بقتله ، فعاوده وأعلمه شجاعته ونكايته في العدو ، فعاد وكتب إليه بقتله ، فراجعه ، فكتب إليه الثالثة ، فلم يفعل ، فكتب كسرى بعزل كسرى شهربراز وولاية فرخان العسكر ، فأطاع شهربراز فلما جلس على سرير الإمارة ألقى إليه القاصد بولايته كتابا صغيرا من يأمره بقتل كسرى شهربراز فعزم على قتله ، فقال له شهربراز : أمهلني حتى أكتب وصيتي ، فأمهله ، فأحضر درجا وأخرج منه كتب الثلاثة وأطلعه عليها وقال : أنا راجعت فيك ثلاث مرات ولم أقتلك ، وأنت تقتلني في مرة واحدة ، فاعتذر أخوه إليه وأعاده إلى الإمارة واتفقا على موافقة ملك كسرى الروم على ، فأرسل كسرى شهربراز إلى هرقل : إن لي إليك حاجة لا يبلغها البريد ولا تسعها الصحف ، فالقني في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا ، فأقبل قيصر في جيوشه جميعها ، ووضع عيونه تأتيه بخبر شهربراز ، وخاف أن يكون مكيدة ، فأتته عيونه فأخبروه أنه في خمسين فارسيا ، فحضر عنده في مثلها ، واجتمعا وبينهما ترجمان فقال له : أنا وأخي خربنا بلادك وفعلنا ما علمت ، وقد حسدنا وأراد قتلنا ، وقد خلعناه ونحن نقاتل معك . ففرح كسرى هرقل بذلك واتفقا [ ص: 432 ] عليه وقتلا الترجمان لئلا يفشي سرهما ، وسار هرقل في جيشه إلى نصيبين .
وبلغ الخبر وأرسل لمحاربة كسرى أبرويز هرقل قائدا من قواده اسمه راهزار في اثني عشر ألفا ، وأمره أن يقيم بنينوى من أرض الموصل على دجلة يمنع هرقل من أن يجوزها ، وأقام هو بدسكرة الملك ، فأرسل راهزار العيون ، فأخبروه أن هرقل في سبعين ألف مقاتل ، فأرسل إلى يعرفه ذلك ، وأنه يعجز عن قتال هذا الجمع الكثير ، فلم يعذره وأمره بقتاله ، فأطاع وعبى جنده ، وسار كسرى هرقل نحو جنود ، وقطع كسرى دجلة من غير الموضع الذي فيه راهزار ، فقصده راهزار ولقيه ، فاقتتلوا ، فقتل راهزار وستة آلاف من أصحابه وانهزم الباقون .
وبلغ الخبر أبرويز وهو بدسكرة الملك ، فهده ذلك وعاد إلى المدائن ، وتحصن بها لعجزه عن محاربة هرقل ، وكتب إلى قواد الجند الذين انهزموا يتهددهم بالعقوبة فأحوجهم إلى الخلاف عليه ، على ما نذكره إن شاء الله . وسار هرقل حتى قارب المدائن ثم عاد إلى بلاده .
وكان سبب عوده أن لما عجز عن كسرى هرقل أعمل الحيلة ، فكتب كتابا إلى شهربراز يشكره ويثني عليه ويقول له : أحسنت في فعل ما أمرتك به من مواصلة ملك الروم وتمكينه من البلاد ، والآن قد أوغل وأمكن من نفسه ، فتجيء أنت من خلفه وأنا من بين يديه ، ويكون اجتماعنا عليه يوم كذا فلا يفلت منهم أحد . ثم جعل الكتاب في عكاز أبنوس ، وأحضر راهبا كان في دير عند المدائن وقال له : لي إليك حاجة . فقال الراهب : الملك أكبر من أن يكون له إلي حاجة ولكنني عبده . قال : إن الروم قد نزلوا قريبا منا ، وقد حفظوا الطرق عنا ، ولي إلى أصحابي الذين بالشام حاجة ، وأنت نصراني إذا جزت على الروم لا ينكرونك ، وقد كتبت كتابا وهو في هذه العكازة فتوصله إلى شهربراز ، وأعطاه مائتي دينار . فأخذ الكتاب وفتحه وقرأه ثم أعاده وسار ، فلما صار بالعسكر ورأى الروم والرهبان والنواقيس رق قلبه وقال : أنا شر الناس إن أهلكت النصرانية ! فأقبل إلى سرادق الملك وأنهى حاله وأوصل الكتاب إليه . فقرأه ثم أحضر أصحابه رجلا قد أخذوه من طريق الشام قد واطأه ومعه كتاب [ ص: 433 ] قد افتعله على لسان كسرى شهربراز إلى يقول : إنني مازلت أخادع ملك كسرى الروم ، حتى اطمأن إلي ، وجاز إلى البلاد كما أمرتني ، فيعرفني الملك في أي يوم يكون لقاؤه ، حتى أهجم أنا عليه من ورائه والملك من بين يديه ، فلا يسلم هو ولا أصحابه ، وآمره أن يتعمد طريقا يؤخذ فيها .
فلما قرأ ملك الروم الكتاب الثاني تحقق الخبر ، فعاد شبه المنهزم مبادرا إلى بلاده ، ووصل خبر عودة ملك الروم إلى شهربراز ، فأراد أن يستدرك ما فرط منه ، فعارض الروم فقتل منهم قتلا ذريعا وكتب إلى : إنني عملت الحيلة على كسرى الروم حتى صاروا في العراق ، وأنفذ من رءوسهم شيئا كثيرا .
وفي هذه الحادثة أنزل الله تعالى : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) ، يعني بأدنى الأرض أذرعات ، وهي أدنى أرض الروم إلى العرب ، وكانت الروم قد هزمت بها في بعض حروبها .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون قد ساءهم ظفر الفرس أولا بالروم ; لأن الروم أهل كتاب ، وفرح الكفار لأن المجوس أميون مثلهم ، فلما نزلت هذه الآيات راهن أبو بكر الصديق أبي بن خلف على أن الظفر يكون للروم إلى تسع سنين ، والرهن مائة بعير ، فغلبه أبو بكر ، ولم يكن الرهن ذلك الوقت حراما ، فلما ظفرت الروم أتى الخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية .