الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم نادى الله - تعالى - بهذه الآية جميع الناس في سياق خطاب أهل الكتاب ; لأن الحجة إذا قامت عليهم بشهادة الله - تعالى - بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم الإيمان به ، فبالأولى تقوم على غيرهم ممن ليس لهم كتاب ككتابهم ، وذكر الرسول ههنا معرفا ; لأن أهل الكتاب قد بشروا به ، وكانوا ينتظرون بعثته ، بعنوان أنه الرسول الكامل ، الذي هو المتمم الخاتم ، ومما يدل على أن اليهود كانوا [ ص: 66 ] ينتظرون من الله مسيحا ونبيا بشر بهما أنبياؤهم ، ما جاء في أوائل الفصل الأول من إنجيل يوحنا ، وهو أنهم أرسلوا بعض الكهنة واللاويين إلى يوحنا ( يحيى عليه السلام ) ليسألوه من هو . وكانت قد ظهرت عليه علامات النبوة فسألوه أأنت المسيح ؟ قال : لا ، قالوا : أأنت النبي ؟ قال : لا . والشاهد أنهم ذكروا له النبي بلام العهد ، فلا شك أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية في زمن التنزيل تذكر مجيء الرسول المعرف بصيغة التحقيق ، قد فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى - صلى الله عليه وسلم - في التوراة ( وهو في سفر تثنية الاشتراع ) وعيسى في الإنجيل ( وسيأتي شاهد منه في تفسير الآية التالية لهذه ) وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام ، ومن لم يعرف شيئا من أمر هذه البشارات يفهم من التعريف معنى آخر هو صحيح ومراد ، وهو أن التعريف لإفادة أن هذا الرسول هو الفرد الكامل في الرسل لظهور نبوته ، ونصوع حجته ، وعموم بعثته ، وختم النبوة والرسالة به ، ومعنى كونه جاء الناس بالحق من ربهم : أنه جاءهم بالقرآن الذي هو أبلغ بيان للحق ، وأظهر الآيات المؤيدة له ، واختيار لفظ الرب هنا للإشعار بأن هذا الحق الذي جاء به يقصد به تربية المؤمنين وتكميل فطرتهم ، وتزكية نفوسهم ; ولهذا قال فآمنوا خيرا لكم أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا ، فإن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ; لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس الحسية والمعنوية ، ويؤهلكم للسعادة الأبدية ، هذا هو التقدير المتبادر عندي وعليه الكسائي ، وأما الخليل وتلميذه سيبويه فيقدران : واقصدوا بالإيمان خيرا لكم ، أي مما أنتم عليه . وقال الفراء : فآمنوا إيمانا خيرا لكم ، ويدل على ما اخترناه قوله في مقابله : وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض أي إن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم ، وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وما يترتب عليه من سوء عملكم ; لأن له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وعبيدا ، وكل يعبده طوعا أو كرها ، أما عبادة الكره وعدم الاختيار فبالخضوع للسنن والأقدار ، وهي عامة في جميع الخلق حتى ما ليس له إدراك ولا عقل ، وأما عبادة الاختيار ، فخاصة بالمؤمنين الأخيار ، والملائكة الأبرار ، وأمثالهم من جنود الله وكان الله عليما حكيما أي وكان شأنه العلم المحيط والحكمة الكاملة كما يظهر ذلك في جميع أفعاله وأحكامه وسننه ، فلا يخفى عليه شيء من أمركم في إيمانكم وكفركم ، ولا يعدو حكمته أمر جزائكم ، وحاشا علمه وحكمته أن يخلقكم عبثا ، وأن يترككم بعد ذلك سدى ، كلا إنه يجزي كل نفس بما تسعى ، فطوبى لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية