الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          لما أطلق القول في هذا السياق ببيان سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم ، وكان ذلك يوهم أن ما ذكر عنهم عام مستغرق لجميع أفرادهم ، جاء الاستدراك عقبه في بيان حال خيارهم ، الذين لم يذهب عمى التقليد ببصيرتهم ، وهو لكن الراسخون في العلم منهم أي : لكن أهل العلم الصحيح بالدين من اليهود ، الآخذون فيه بالدليل دون التقليد ، الراسخون أي : الثابتون فيه ثبات الأطواد ، بحيث لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه والمؤمنون من عامتهم ، أو من أمتك أيها الرسول ، إيمان إذعان يبعث على العمل ، لا إيمان دعوى وعصبية وجدل ، كما هو المعروف عن المقلدة في كل الملل ، كل منهم يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول ، من البينات والهدى في القرآن وما أنزل من قبلك على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل عليهم السلام ، لا يفرقون بين الله ورسله بالهوى والعصبية . روى عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة أنه قال في هذه الجملة : استثنى الله منهم ، فكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم ، وما أنزل على نبي الله ، يؤمنون به ويصدقون به ، ويعلمون أنه الحق من ربهم . وروى ابن إسحاق ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه قال في الآية : نزلت في عبد الله بن سلام ، وأسيد بن سعية ، وثعلبة بن سعية ، حين فارقوا يهود وأسلموا .

                          وما جرينا عليه من جعل ما تقدم جملة تامة ظاهر يسيغه الفهم بغير غصة ، ولا يعترض الذهن فيه شبهة ولا كبوة ، واختار بعضهم أن جملة " يؤمنون " إلخ . حالية أو معترضة لا خبرية ، أو أن الخبر هو جملة " أولئك سنؤتيهم " في آخر الآية . وقد راجعت تفسير الرازي بعد كتابة ما تقدم فإذا هو يجزم بأن الراسخون مبتدأ ، خبره يؤمنون وإذا هو [ ص: 53 ] يفسر الراسخين بالمستدلين ، وعلل ذلك بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك ألبتة ، وأورد في قوله والمؤمنون وجهين ; أحدهما : أنهم المؤمنون منهم ، وثانيهما : أنهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار ، وهذا أظهر ، وإلا لقال : " لكن الراسخون في العلم والمؤمنون منهم " إلخ . والمعنى أن الراسخين في العلم منهم ، هم ومؤمنو المهاجرين والأنصار سواء في كونهم يؤمنون بما أنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل إلى من قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يفرقون بينهم .

                          وأما قوله ، تعالى : والمقيمين الصلاة فهو جملة مستقلة ، و " المقيمين " فيه منصوب على الاختصاص ، أو المدح ، على ما قاله النحاة البصريون سيبويه وغيره ، والتقدير : أعني أو أخص المقيمين الصلاة منهم الذين يؤدونها على وجه الكمال ، فإنهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان ، والنصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة ، والنكتة هنا ما ذكرنا آنفا من مزية الصلاة ، وكون إقامتها آية كمال الإيمان . على أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى التأمل فيها ، ويهدي الفكر إلى استخراج مزيتها ، وهو من أركان البلاغة ، ونظيره في النطق أن يغير المتكلم جرس صوته وكيفية أدائه للكلمة التي يريد تنبيه المخاطب لها ; كرفع الصوت أو خفضه أو مده بها ، وقد عد مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصح الكلام وأبلغه . وقيل : إن المقيمين معطوف على المجرور قبله ، والمعنى : يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك على الرسل ، وبالمقيمين الصلاة ، وهم الأنبياء أنفسهم ، فإن الله - تعالى - قال في الأنبياء وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة ( 21 : 73 ) أي : إقامتها ، أو الملائكة ; فإنه - تعالى - حكى عنهم قولهم : وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ( 37 : 165 ، 166 ) ووصفهم بقوله : يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( 21 : 20 ) والإيمان بهم من أركان الإيمان كالإيمان بالرسل .

                          وما ذكرناه أولا أبلغ عبارة ، وإن عده الجاهل أو المتجاهل غلطا أو لحنا ، وروي أن الكلمة في مصحف عبد الله بن مسعود مرفوعة ( والمقيمون الصلاة ) فإن صح ذلك عنه ، وعمن قرأها مرفوعة ; كمالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي كانت قراءة ، وإلا فهي كالعدم . وروي عن عثمان أنه قال : إن في كتابة المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، وقد ضعف السخاوي هذه الرواية ، وفي سندها اضطراب وانقطاع ; فالصواب أنها موضوعة ، ولو صحت لما صح أن يعد ما هنا من ذلك اللحن ; لأنه فصيح بليغ ، وإنني بعد كتابة ما تقدم ، راجعت الكشاف ، فإذا هو يقول : نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد . ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من ينصره في الكتاب أي كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب [ ص: 54 ] وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم . اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية