الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وقد استدل بعضهم بقوله تعالى : إذا آتيتموهن أجورهن على أن المراد بالمحصنات الحرائر ; لأن معناه إذا أعطيتموهن مهورهن ، والأمة لا تأخذ مهرها ، وإنما يأخذه المالك ، ويرده قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله : وآتوهن أجورهن ( 4 : 25 ) فهو عين ما هنا ، وقد رجحنا في تفسير تلك الآية القول بأن مهر الأمة حق لها على الزوج ، لا لمولاها ، وهو مذهب مالك ، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول : إن الإماء لا يعطين مهورهن ، والله - عز وجل - يقول إذا آتيتموهن أجورهن ولا خلاف في أن الأجور هي المهور ؟ غاية ما يقوله الذين يقولون إن الأمة لا تملك شيئا ، ولا يستثنون المهر من قاعدتهم بدليل الآية : أن للسيد أن يبقي لها المهر الذي تأخذه من زوجها ، وأن يأخذه بحق الملك .

                          ولك أن تقول : إن دلالة قوله تعالى : محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان على ترجيح كون المراد بالمحصنات العفائف أقوى مما ذكر ; إذ يكون الشرط في الرجال عين [ ص: 152 ] الشرط في النساء ، وقوله : محصنين هنا حال ، وهي قيد في عاملها فتفيد الشرطية ; أي هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلا أو فرضا حال كونكم محصنين إلخ . والمراد بالمحصنين هنا الأعفاء عن الزنا فعلا أو قصدا دون الأحرار ; لأنهم الأصل في الخطاب ، ولا نعلم في هذا خلافا ، ويطلق " المحصن " بكسر الصاد بمعنى اسم الفاعل وبمعنى اسم المفعول ، فالزواج يقصد به أن يكون الرجل محصنا ، والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر ، ويجعله في حصن يمنعه من الفاحشة جهرا أو على الشيوع ، وهو المراد بالمسافحة ، أو سرا ، أو اختصاصا باتخاذ خدن من الأخدان وهو يطلق على الصاحب والصاحبة بألا يكون للمرأة صاحب أو خليل يزني بها سرا ، ولا يكون للرجل امرأة كذلك ، وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة النساء .

                          روى ابن جرير عن قتادة أنه قال : " ذكر لنا أن أناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم - يعني نساء أهل الكتاب - وهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله عز ذكره : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين فأحل الله تزويجهن على علم . اهـ . والذي أراه أن هذه الجملة نزلت مع الآية لا متأخرة عنها ، وأن ما قاله قتادة عن الصحابة رضي الله عنهم معناه أنه لما استغرب بعضهم نكاح نساء أهل الكتاب واستنكروه ، وكأنهم كانوا قريبي عهد بالإسلام ، أنكر عليهم ذلك أهل العلم ووعظوهم بهذه الجملة التي ختمت بها الآية ، ومعناها أن الإيمان لا يكون إلا بالإذعان لما أحله الله وحرمه ، ومن لم يذعن كان كافرا ، ومن كفر بما يجب عليه الإيمان به من كتاب الله حبط عمله أي بطل ثوابه ، وخسر في الآخرة ما أعده الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح ، وهو إيمان الإذعان والعمل .

                          روى ابن جرير عن مجاهد وعطاء تفسير ( يكفر بالإيمان ) بالكفر بالله عز وجل ، وعن ابن عباس أنه قال في الآية : " أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى ، وأنه لا يقبل عملا إلا به ، ولا يحرم الجنة إلا على من تركه " ووجه ابن جرير قول مجاهد ، بأنه تفسير بالمراد لا بظاهر اللفظ ، وذلك أن الإيمان هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه ، والكفر جحود ذلك ، وفسرها هو على الوجه الذي يعطيه ظاهر اللفظ بقوله : ومن يأب الإيمان بالله ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه - فقد حبط عمله ، وذلك الكفر هو الجحود في كلام العرب ، والإيمان التصديق والإقرار ، ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به فهو من الكافرين . اهـ . ووجه الرازي قول مجاهد وعزاه إلى ابن عباس أيضا بأنه مجاز حسنه أن الله - تعالى - رب الإيمان ورب كل شيء ، وجعل الإيمان بمعنى القرآن في قول قتادة أنها نزلت في من استنكروا نكاح الكتابيات ، أي من حيث اشتماله على ما ذكر [ ص: 153 ] من الأحكام ، وفسره الزمخشري بشرائع الإسلام وما أحل الله وحرم ، أي كما ذكر في الآية ، وتبعه على ذلك البيضاوي وغيره .

                          ومجمل معنى الآية : اليوم أحل لكم الطيبات من الطعام ، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم بمقتضى الأصل لم يحرمه الله عليكم قط ، وطعامكم حل لهم كذلك أيضا ، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها ، أو صادوها كيفما كانت تذكيته وصيده عندهم ، وأن تطعموهم مما تذكون وتصطادون ، ويدخل في ذلك لحم الأضحية خلافا لمن منعه ، ولا يخرج منه إلا ما كان خاصا بقوم لا يشملهم وصفهم ; كالمنذور على أناس معينين بالذوات أو بالوصف . والمحصنات من المؤمنات ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، حل لكم كذلك بمقتضى الأصل ، وما قرره في آية النساء وأحل لكم ما وراء ذلكم ( 4 : 24 ) لم يحرمهن الله عليكم إذا أعطيتموهن مهورهن التي تفرضونها لهن عند العقد ، وإلا وجب لهن مهر المثل ، بشرط أن تكونوا قاصدين بالزواج إحصان أنفسكم وأنفسهن ، لا الفجور المراد به سفح الماء جهرا ولا سرا ، وسيأتي بيان ما هو الاحتياط وبحث اختلاف الزمان في المسألة . والتعبير بقوله اليوم أحل لكم الطيبات إنشاء لحلها العام الدائم كما تقدم ، ولكنه لم يقل مثل ذلك فيما بعده بل قال : حل لكم وهو خبر مقرر للأصل في المسألتين : مسألة مؤاكلة أهل الكتاب ، ومسألة نكاح نسائهم ، فلم يكن شيء منهما محرما من قبل وأحل في ذلك اليوم ، لا بتحريم من الله ولا بتحريم الناس على أنفسهم ; كما حرموا بعض الطيبات . فهذا ما ظهر لنا من نكتة اختلاف التعبير ، وسكت عنه الباحثون في نكت البلاغة الذين اطلعنا على كلامهم ، وحكمة النص على هذا الحل قطع الطريق على الغلاة أن يحرموه باجتهادهم وأهوائهم ، على أن منهم من حرمه مع النص الصريح ، ونص على أن طعامنا حل لهم دون نسائنا ، فليس لنا أن نزوجهم منا ; لأن كمال الإسلام وسماحته لا يظهران من المرأة ؛ لسلطان الرجل عليها ، هذا هو المتبادر لمن يفهم العبارة مجردا من تقاليد المذاهب ، فمن فهم مثل فهمنا ، ففهمه حاكم عليه ، ولا نجيز لأحد أن يقلدنا فيه تقليدا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية