الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولما بين الله تعالى نقض اليهود لميثاقهم ، وما كان من أمرهم ، أعقبه ببيان حال النصارى في ذلك ، فقال : ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به ) أي وكذلك أخذنا ميثاق الذين سموا أنفسهم نصارى من أهل الكتاب الأول ، وهم الذين قالوا : إنهم اتبعوا المسيح ونصروه ، وقد صاروا طائفة مستقلة مؤلفة من الإسرائيليين وغيرهم ، فنقضوا ميثاقهم ، ونسوا حظا ونصيبا مما ذكروا به على لسان المسيح عيسى ابن مريم ، كما فعل الذين من قبلهم ( فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) الفاء للسببية ; أي فكان نسيان حظ عظيم من كتابهم سببا لوقوعهم في الأهواء والتفرق في الدين الموجب بمقتضى سنتنا في البشر للعداوة والبغضاء . والإغراء : التحريش ، وإسناده إلى الله تعالى مع كونه من أعمالهم الاختيارية سببا ومسببا ; لأنه من مقتضى سننه في خلقه . فهذا جزاؤهم في الدنيا ( وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) عندما يحاسبهم في الآخرة ، ينبئهم بحقيقة ضلالهم ، ويجازيهم عليه بعد ذلك ; ليعلموا أنه حكم عدل ، لا يظلم مثقال ذرة .

                          [ ص: 238 ] بين الله لنا أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود ، وسبب ذلك أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتمجيده والإرشاد لعبادته ، وكان من اتبعوه من العوام ، وأمثلهم حواريوه وهم من الصيادين ، وقد اشتد اليهود في عداوتهم ومطاردتهم ، فلم تكن لهم هيئة اجتماعية ذات قوة وعلم تدون ما حفظوه من إنجيل المسيح وتحفظه ، ويظهر من تاريخهم وكتبهم المقدسة أن كثيرا من الناس كانوا يبثون بين الناس في عصرهم تعاليم باطلة عن المسيح ، ومنهم من كتب في ذلك ، حتى إن الذين كتبوا كتبا سموها الأناجيل كثيرون جدا ، كما صرحوا به في كتبهم المقدسة وتواريخ الكنيسة ، وما ظهرت هذه الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عندما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النصرانية ، وإدخاله إياها في طور جديد من الوثنية . وهذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح ، وهي متعارضة متناقضة مجهولة الأصل والتاريخ ، بل وقع الخلاف بينهم في مؤلفيها واللغات التي ألفوها بها ، وقد بينا في تفسير أول سورة " آل عمران " حقيقة إنجيل المسيح ، وكون هذه الكتب لم تحو إلا قليلا منه ، كما تحتوي السيرة النبوية عندنا على القليل من القرآن والحديث ، وهذا القليل من الإنجيل قد دخله التناقض والتحريف .

                          وقد أورد الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه ( إظهار الحق ) المشهور ، مائة شاهد من الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى ، على التحريف اللفظي والمعنوي فيها ، نقلت بعضها على سبيل النموذج في تفسير آية النساء ( 4 : 46 ) ومنها ما عجز مفسرو التوراة عن تمحل الجواب عنه ، وجزموا بأنه ليس مما كتبه موسى عليه السلام ، فراجعه في ( ص 113 وما بعدها من جزء التفسير الخامس ، ط الهيئة ) . والظاهر أن التنكير في قوله " نصيبا وحظا " للتعظيم ; أي أن ما نسوه وأضاعوه منه كثير ، وما أوتوه وحفظوه كثير أيضا ، فلو كانوا يعملون به ما فسدت حالهم ، ولا عظم خزيهم ونكالهم . وهذا هو المعقول في حال عدم حفظ الأصل بنصه في الصدور والسطور ، ونحن نجزم بأننا نسينا وأضعنا من حديث نبينا صلى الله عليه وسلم حظا عظيما ; لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه ، ولكنه ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين ، فإن جميع أمور الدين مودعة في القرآن ومبينة في السنة العملية ، وما دون من الحديث مزيد هداية وبيان .

                          هذا ، وإن العرب كانت أمة حفظ ، ودونوا الحديث في العصر الأول ، وعنوا بحفظه وضبط متونه وأسانيده عناية شاركهم فيها كل من دخل في الإسلام ، ولم يتفق مثل ذلك لغير المسلمين من المتقدمين والمتأخرين .

                          [ ص: 239 ] لسنا في حاجة إلى تفصيل القول في ضياع حظ عظيم من كتب اليهود ، وفي وقوع التحريف اللفظي والمعنوي فيما عندهم منها ، وفي إيراد الشواهد من هذه الكتب ، ومن التاريخ الديني عند أهل الكتاب على ذلك ; لأنه ليس بيننا وبين اليهود مناظرات دينية تقتضي ذلك ، ولولا أن النصارى أقاموا بناء دينهم وكتبهم التي يسمونها ( العهد الجديد ) على أساس كتب اليهود التي يسمونها ( العهد العتيق ) لما زدنا في الكلام عن كتب اليهود على ما نثبت به ما وصفها به القرآن العزيز بالإجمال ، وإنما الحاجة تدفعنا إلى بعض التفصيل في إثبات نسيان النصارى وإضاعتهم حظا عظيما مما جاء به المسيح عليه السلام ، وتحريف الكتب التي في أيديهم ; لأنهم أسرفوا في التعدي على الإسلام والطعن فيه ، فكان مثلهم كمثل من بنى بيتا من الزجاج على شفا جرف من الرمل ، وحاول أن ينصب فيه المدافع ; ليهدم حصنا حصينا مبنيا على جبل راسخ ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) ( 9 : 109 ) .

                          وقد قامت مجلتنا - المنار - بما يجب من هذا البيان ، ودفع ما بدأ به دعاة النصرانية من الظلم والعدوان ، وسبق في التفسير قليل من كثير مما نشر في المنار ، ونذكر هنا بعض المسائل في ذلك بالإيجاز :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية