الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( رجل ) مات وترك ابنتين وابن ابن وبنت ابن ، وترك ابنا مفقودا ، وترك مالا في يد الابنتين فارتفعوا إلى القاضي ، وأقروا أن الابن مفقود فالقاضي لا ينبغي له أن يحول المال من موضعه ، ولا يوقف شيئا منه للمفقود ، ومراده بهذا اللفظ أنه لا يخرج شيئا من أيديهما ; لأن القاضي لا يتعرض لإخراج المال من يد ذي اليد إلا بمحضر من الخصم ، ولا خصم هنا ، فإن أولاد المفقود لا يدعون لأنفسهم شيئا ، ولا يكونون خصما عن المفقود ; لأنه لا يدرى أن المفقود حي فيرث أو ميت فلا يرث [ ص: 46 ] فلهذا لا يخرج المال من أيديهما بخلاف مال المفقود الذي يعلم أنه له ; لأن حق أولاده ثابت في ذلك المال باعتبار ملكه ، فإنهم يستحقون النفقة في ملكه ، واستصحاب الحال معتبر في إبقاء ما كان على ما كان ، وكذلك إن قالت الابنتان : قد مات أخونا ، وقال ولد الابن : هو مفقود ; لأن من في يده المال قد أقر لولد الابن ببعض ذلك المال ، وهم قد ردوا إقرارهم بقولهم : أبونا مفقود فيسقط اعتبار ذلك الإقرار ، ولو كان مال الميت في يدي ولد الابن المفقود ، وطلبت الابنتان ميراثهما ، واتفقوا أن الابن مفقود ، فإنه يعطى للابنتين النصف ; لأنا تيقنا باستحقاق النصف لهما ، فإن المفقود إن كان حيا فالميراث بينهما وبين أخيهما للذكر مثل حظ الأنثيين فلهما النصف ، وإن كان ميتا فلهما الثلثان والباقي لولد الابن فيدفع إليهما الأقل وهو النصف ، ويترك الباقي في يد ولد الابن من غير أن يقضي به لهما ، ولا لأبيهما ; لأنه لا يدري من المستحق لهذا الباقي ، ولو كان المال في يد أجنبي فقالت الابنتان : مات أخونا قبل أبينا ، وقال ولد الابن : هو مفقود فإن أقر الذي في - يده المال بالمال للميت ، وبأن الابن مفقود فإنه يعطى للابنتين النصف أقل النصيبين لهما ، والباقي موقوف على يده حتى يظهر خصمه ، ومستحقه بظهور حال المفقود . وإن قال الذي في يده المال قد مات المفقود قبل أبيه ، فإنه يجبر على دفع الثلثين إلى الابنتين ; لأن إقرار ذي اليد فيما في يده معتبر ، وقد أقر بأن ثلثي ما في يده للابنتين فيجبر على تسليم ذلك إليهما ، ولا يمتنع صحة إقراره يقول أولاد الابن : أبونا مفقود لأنهم لأنفسهم بهذا القول لا يدعون شيئا ، ثم يوقف الثلث الباقي على يد ذي اليد حتى يظهر خصمه ومستحقه .

ولو جحد الذي في يديه المال أن يكون المال للميت فأقامت الابنتان البينة أن أباهم مات وترك هذا المال ميراثا لهما ولأخيهما المفقود ، فإن كان حيا فهو الوارث معهما ، وإن كان ميتا فولده الوارث معهما ، ولا يعلم له غير هؤلاء ، فإنه يدفع إلى الابنتين النصف ، وهذا لأنهما بهذه البينة يثبتان الملك لأبيهما في المال ، والأب ميت ، وأحد الورثة ينتصب خصما عن الميت في إثبات الملك له بالبينة ثم يدفع إليهما القدر المتيقن بأنه مستحق لهما ، وهو النصف ، والباقي يخرج من يد ذي اليد فيوضع في يد عدل حتى يظهر مستحقه ; لأن ذا اليد قد جحده وظهرت جنايته بجحوده ، فلا يؤتمن بعد ذلك ، وإن كان معروفا بالعدالة ; لأن العدالة لا تتحرز زمن تناول ما يزعم أنه ملك بخلاف ما سبق ، فذو اليد كان هناك مقرا بأن المال للميت ، وقد انتفت الجناية منه بهذا الإقرار فكان ترك الباقي في يده أولى لظهور أمانته بالتجربة .

فإن ادعى ولد المفقود أنه مات بعد شهادة الشهود لم أدفع . [ ص: 47 ] إليهم شيئا حتى تقوم البينة على موته قبل أبيه ; لأنهم يريدون استحقاق اليد على ذي اليد ، ومجرد قولهم لا يكفي لذلك ، ولأن سبب الاستحقاق لهم غير معلوم ، فإن أباهم إن مات قبل موت الجد فهم يستحقون الثلث ميراثا من الجد ، وإن مات بعد موت الجد فهم يستحقون النصف ميراثا من أبيهم ، ولا يجوز القضاء لهم بشيء قبل ظهور سبب الاستحقاق ، فلا بد أن يقيموا البينة على موته قبل أبيه أو بعده ، ولا ينفق عليهم من ذلك المال شيء ، وإن كانوا محتاجين ; لأنه لا يدري لمن هذا المال ، ونفقتهم عند الحاجة في مال أبيهم ، والملك لأبيهم في هذا المال لا يثبت ما لم تعلم حياته بعد موت الجد . فإن كان المال أرضا في أيدي الابنتين وولد الابن فأقروا جميعا أن الابن قد مات قبل أبيه ، واقتسموا الأرض بينهم على ذلك ثم ادعوا أنه مفقود ، فإن القاضي يمضي القسمة عليهم ; لأنها تمت بتراضيهم ، وقولهم فيما في أيديهم مقبول فكانت القسمة ماضية ، ولا يقبل قولهم إنه مفقود لأنهم مناقضون في ذلك ، والقاضي لا يلتفت إلى قول المناقض .

وكذلك لو كان في ولد الابن رجل غائب لم يشهد القسمة ، ولم يكن في يده شيء من هذه الأرض ثم قدم فقال : والدي مفقود ، وأراد نقض القسمة لم يكن له ذلك ; لأنه لا يدعي لنفسه بمقابلته ، وإنما يدعي الملك للمفقود ، وهو مقر أنه ليس بوكيل له ، ولا وارث لأنه حي ، ونقض القسمة بقول من لا يدعي لنفسه شيئا لا يجوز ، بخلاف ما لو كان بعض الأرض في يده لأنه مدع لنفسه حقا ، وهو إبقاء يده فيما في يده ، وقسمتهم قبل حضوره غير صحيح لما فيه من استحقاق يده عليه ، وكذلك لو كان مكان الغائب صغير فأدرك ، وإن ادعى أن أباه مات قبل جده كان له أن ينقض القسمة فيقسمها القاضي بينهم قسمة مستقبلة بإقرارهم على أنفسهم ; لأنه يدعي لنفسه بعض الملك هنا ، ويدعي بطلان قسمتهم ; لأن تراضيهم على القسمة بعد موت الجد لا يعمل به في حق الغائب والصغير ، وهم مصدقون له فيما يدعي ، فلهذا ينقض القسمة بخلاف ما لو كان القاضي هو الذي قسمه بين الحضور ، وعزل نصيب الغائب والصغيرة ، فإنه ينفذ قسمته في حقهما إذا لم يكن في يد الغائب والصغير من هذا المال شيء لأن للقاضي نوع ولاية في حق الغائب والصغير ، وليس للورثة تلك الولاية في حق الغائب والصغير ، ولو ماتت ابنة هذا الابن المفقود فإن كان ميراثها في يد أخيها لم أتعرض له ، ولم أقف منه شيئا للمفقود ; لأنه لا يدرى أحي هو فيكون وارثا أو ميت فلا يكون وارثا ، وقد بينا أنه لا يتعرض ليد ذي اليد إلا بمحضر من الخصم . وإن كان ميراثها في يد [ ص: 48 ] أجنبي لم أدفع إلى أخيها منه شيئا ; لأن شرط توريث الأخ أن يكون الأب ميتا فما لم يصر هذا الشرط معلوما بالحجة لا يدفع إلى الأخ من الميراث شيء ، وإن كان ميراثها في يد أخيها وأختها ، وأرادوا القسمة وهم مقرون بأن الأب مفقود لم أقسم بينهم ; لأن القسمة تبنى على ثبوت استحقاقهم بالميراث ، ولا يثبت ذلك ما لم تقم البينة على موت الأب المفقود قبل موت الابنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية