الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإن هلكت بعد ما آجرها كان ضامنا لها ، فإذا لم يؤاجرها ولكنها هلكت في يده لم يضمن في أقوال علمائنا رحمهم الله سواء هلكت من استعماله أو لا ، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود رضوان الله عليهم ، وقال الشافعي رحمه الله إن هلكت من الاستعمال المعتاد لم يضمن ، وإن هلكت لا من الاستعمال ضمن قيمتها للمالك ، وهو قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما ، واحتج في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { العارية مضمونة } فقد جعل الضمان صفة للعارية . فيقتضي أن يكون صفة لازمة لها كما أن الله تعالى لما جعل القبض صفة للرهن بقوله عز وجل : { فرهان مقبوضة } اقتضى أن يكون ذلك صفة لازمة للرهن { واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان دروعا في حرب هوازن فقال له : أغصبا يا محمد . ؟ قال صلى الله عليه وسلم لا : بل عارية مضمونة مؤداة } { وكتب في عهد بني نجران وما تعار رسلي فهلكت على أيديهم فضمانها على رسلي } وقال صلى الله عليه وسلم : { على اليد ما أخذت حتى ترد } والأخذ إنما يطلق في موضع يأخذ المرء لمنفعة نفسه ، وذلك موجود في العارية ، وهو المعنى الفقهي أنه لما قبض مال الغير لنفسه لا عن استحقاق تقدم ، فكان مضمونا عليه كالمغصوب والمقبوض على سوم الشراء والمستقرض ، وهذا لأنه لما لم يثبت بهذا العقد استحقاق تسليم العين عرفنا أنه مقصور على المنفعة لا يتعدى إلى العين فصار في حق العين كأنه قبضه بغير إذنه ، بخلاف الإجارة فقد تعدى العقد هناك إلى العين حتى تعلق به استحقاق تسليم العين ، وبخلاف [ ص: 135 ] الوديعة فإن المودع لا يقبض الوديعة لمنفعة نفسه إنما يقبضها لمنفعة المالك ; ولهذا لم يكن عليه مؤنة الرد ، وهو المعتمد لهم ، فإن قبض العارية يوجب ضمان الرد حال قيام العين ، فيوجب ضمان القيمة حال هلاك العين كالقبض بطريق الغصب .

يقرره أن ضمان الرد إنما يلزمه لأنه يسقط بالرد ضمان العين عن نفسه ، ولما لزمه ضمان الرد فعليه أداء ما لزمه ، ولا يتحقق أداء ذلك إلا برد العين عند قيامه ورد القيمة عند هلاك العين ليصير به مؤديا ما لزمه من ضمان الرد ، وهذا بخلاف ما لو تلف في الاستعمال ; لأن فعله في الاستعمال منقول إلى المالك ، فإنه يستعمل بتسليط المالك فيحصل به الرد معنى ، ويجوز أن يكون العين مضمونا عليه ، ثم يبرأ عن ضمانه بفعل يباشره بتسليط المالك ، كما لو غصب من غيره شاة فقال له المغصوب منه : ضح بها ، فإن هلكت قبل أن يضحي بها ضمنها ، وإن ضحى بها لم يضمن شيئا ، ولا يقال : قبضه بتسليط المالك أيضا ; لأنه يقبض من يد المالك لنفسه ، فلا يمكن أن يجعل فعله في القبض كفعل المالك ، والدليل عليه أنه لو ضمن للمستحق لم يرجع على المعير ، ولو كان يد المستعير في العين كيد المعير لرجع عليه بالمودع ، وحجتنا في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ليس على المستعير غير المغل ضمان ، ولا على المستودع غير المغل ضمان } والمغل هو الخائن فقد نفى الضمان عن المستعير عند عدم الخيانة ، والمعنى فيه أنه قبض العين للانتفاع به بإذن صحيح ، فلا يكون مضمونا عليه كالمستأجر ، وتأثيره أن وجوب الضمان يكون للجبران ، وذلك لا يتحقق إلا بعد تفويت شيء على المالك ، وبالإذن الصحيح ينعدم التفويت ، ألا ترى أن القبض في كونه موجبا للضمان لا يكون فوق الإتلاف ، ثم الإتلاف بالإذن لا يكون موجبا للضمان فالقبض أولى ، ولا يجوز أن يجب الضمان هناك باعتبار العقد ; لأن العقد عقد تبرع ، فلا يكون عقد ضمان كالهبة ، والدليل عليه أن ما تناوله العقد وهو المنفعة لا يصير مضمونا بهذا العقد فما لم يتناوله العقد أولى ، ولأن العقد على المنفعة إذا كان بعوض ، وهو الإجارة لا يوجب ضمان العين ، وتأثير العوض في تقدير حكم ضمان العقد ، فإذا كان العقد على المنفعة مقرونا بالعوض لا يوجب الضمان ، فالمتعري عن العوض كيف يوجب الضمان .

والدليل عليه أنه لو تلف في الاستعمال لم يضمن ، ولا يجوز أن يجعل فعله كفعل المالك ; لأنه استعمل لمنفعة نفسه ، ولكن إنما لا يضمن لوجود الإذن من المالك في الاستعمال فكذلك للقبض وإن قال بحكم الإذن من المالك في الاستعمال جعل استعماله [ ص: 136 ] كاستعمال المالك ، فبحكم الإذن في القبض والإعطاء ينبغي أن يجعل قبضه كقبض المالك أيضا ، ووجوب ضمان الرد على المستعير ليس لما قال ، بل لأن منفعة النقل حصلت له ، والرد فسخ لذلك النقل ، فكانت المؤنة على من حصلت له منفعة النقل ; ولهذا تجب مؤنة الرد على الموصى له بالخدمة أيضا ، فأما ضمان العين إنما يجب على من فوت شيئا على المالك بقبضه كالغاصب ، ولم يوجد ذلك إذا كان القبض بإذنه ، والمقبوض على سوم الشراء إنما كان مضمونا ضمان العقد ، والإذن يقرر ضمان العقد ، ولأن المالك هناك ما رضي بقبضه إلا بجهة العقد ، ففيما وراء العقد كان المقبوض بغير إذنه ، والمستقرض كذلك ، إنما كان مضمونا بالعقد ، والإذن يقرر ضمان العقد ، وإنما لا يرجع المستعير بضمان الاستحقاق ; لأن الرجوع عند الاستحقاق بسبب الغرور أو بسبب العيب ، وذلك يختص بعقد المعاوضة ، فإنه يقتضي السلامة عن العيب ، فأما عقد التبرع لا يقتضي ذلك ; ولهذا لا يرجع الموهوب له بضمان الغرور عندنا .

( وقوله ) بأنه قبض العين لا عن استحقاق تقدم ( قلنا : ) نعم ، ولكنه قبض العين بحق ، والموجب للضمان القبض بغير حق لما فيه من التفويت على المالك ، وكما أن القبض موجب للضمان فالإتلاف كذلك ، ثم الإتلاف إنما يوجب الضمان إذا حصل بغير حق لا إذا حصل بغير استحقاق تقدم فالقبض مثله والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم : { العارية مضمونة } ضمان الرد ، ولأنه جعل الضمان صفة للعين ، وحقيقة ذلك في ضمان الرد ; لأنه يبقى ببقاء الرد ، وحديث صفوان فقد قيل : إنه أخذ تلك الدروع بغير رضاه ، وقد دل عليه قوله : أغصبا يا محمد . ؟ إلا أنه إذا كان محتاجا إلى السلاح كان الأخذ له حلالا ثمة شرعا ، ولكن بشرط الضمان ، كمن أصابته مخمصة له أن يتناول مال الغير بشرط الضمان ، ( وقيل : ) كانت الدروع أمانة لأهل مكة عند صفوان فاستعارها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته إليها فكان مستعيرا من المودع ، وهو ضامن عندنا ( وقيل : ) المراد ضمان الرد .

( وقوله ) مؤداة تفسير لذلك ، كما يقال : فلان عالم ففيه يعلم باللفظ الثاني أن المراد بالأول علم الفقه . ( وقيل : ) كان هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراط الضمان على نفسه ، والمستعير وإن كان لا يضمن ، ولكن يضمن بالشرط كالمودع على ما ذكره في المنتقى ، ولكن صفوان كان يومئذ حربيا ، ويجوز بين المسلم والحربي من الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين ، ( وقيل : ) إنما قال ذلك تطييبا لقلب صفوان على ما روي أنه هلك بعض تلك الدروع فقال : { صلى الله عليه وسلم : إن شئت غرمناها لك ، فقال : لا ، فإني اليوم [ ص: 137 ] أرغب في الإسلام مما كنت يومئذ } ولو كان الضمان واجبا لأمره بالاستيفاء أو الإبراء .

( وقوله صلى الله عليه وسلم ) { وما يعار رسلي فهلك على أيديهم } أي استهلكوه لأنه يقال : هلك في يده إذا كان بغير صنعه على يده إذا استهلكه .

( وقوله صلى الله عليه وسلم ) { على اليد ما أخذت حتى ترد } يقتضي وجوب رد العين ، ولا كلام فيه إنما الكلام في وجوب ضمان القيمة بعد هلاك العين .

التالي السابق


الخدمات العلمية