الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فإن قال : بعثت بها إليك مع هذا الأجنبي أو استودعتها إياه ، ثم ردها علي ، فضاعت : " عندي " لم يصدق وهو ضامن لها ; لأنه أقر بوجود السبب الموجب للضمان عليه ثم ادعى ما يسقط عنه ، فلا يصدق - كالغاصب إذا ادعى رد المغصوب - فإن أقام البينة على ذلك برئ من الضمان ; لأنه أثبت البراءة بالحجة والثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ، وهو مذهبنا ، فإن المودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق : يبرأ عن الضمان . " وعند الشافعي " : لا يبرأ ، وبيانه : في هذه المسألة ، وفيما إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه ، فهلك . وحجة الشافعي قوله - صلى الله عليه وسلم - { : على اليد ما أخذت حتى ترد } . وهو حين أخذها للاستعمال صارت مضمونة عليه ، حتى لو هلكت في تلك الحالة : ضمنها ، فلا يبرأ إلا بالرد على المالك - ولم يوجد - ولأن الوديعة تضمن بالخلاف من طريق القول - وهو الجحود - تارة ، وبالخلاف من طريق الفعل أخرى ، ثم إذا ضمنها بالجحود لم يبرأ بذلك الخلاف ما لم يردها إلى المالك فكذلك بالاستعمال بل أولى ; لأن الاستعمال يتصل بالعين ، والجحود لا يتصل به . وقاس بالمستأجر للدابة إلى مكان : إذا جاوزه ثم عاد إليه لم يبرأ . وكذلك المستعير يعلم أنه أمين ضمن الأمانة بالخيانة ، ولأن المودع معير يده من المودع في الحفظ ، فإذا خالف فقد استرد يد عاريته ، وهو ينفرد به ، ثم إذا عاد إلى الوفاق فقد أراد إعادة يده ثانيا منه ، وهو لا ينفرد به ، ولأن موجب العقد هو الحفظ للمالك ، وبالخلاف [ ص: 115 ] يفوت موجب العقد ، إما لتركه الحفظ أصلا ، أو لتركه الحفظ للمالك حين حفظها لنفسه ; فلا يبقى العقد بعد فوات موجبه ، ولأن الإنسان إنما يأتمن الأمين على ماله - دون الخائن - ومطلق العقد يتقيد بدلالة العرف - كالشراء بمطلق الدراهم يتقيد بنقد البلد - وإذا تقيد العقد بما قبل الخلاف : لا يبقى بعده ، وحجتنا في ذلك : أن الإيداع مطلق فكان باقيا بعد الخلاف ، وبيان الوصف أنه قال : احفظ مالي ، أو قال : احفظه أبدا . ولا يشكل على أحد أن هذا اللفظ يتناول الحفظ قبل الخلاف وبعده ، ثم لم يبطل بالخلاف ; لأن بطلان الشيء بما هو موضع لإبطاله ، أو بما ينافيه ، والاستعمال ليس بموضع لإبطال الإيداع ، وهو لا ينافيه .

ألا ترى أن الأمر بالحفظ مع الاستعمال صحيح - ابتداء - بأن يقول للغاصب : أودعتك ، وهو مستعمل له ، والخلاف ليس يرد ; لأن الأمر قول ، ورد القول بقول مثله ، ولأن الخلاف يكون في حال غيبة المودع ، ولو قال : رددت الأمر في هذه الحالة : لم يرتد . ولأنه تصرف في حفظ الواجب بالأمر على خلاف ما يوجبه ، وليس بتصرف في الأمر وصحة الأمر ، كأن يكون الآمر أهلا له . وكون الحفظ مقصودا من المأمور ، ولم ينعدم شيء من ذلك - بخلاف الجحود - فإنه رد للأمر بعينه ; لأن الجاحد يكون متملكا للعين . والمالك في ملكه لا يكون مأمورا بالحفظ من جهة غيره . والدليل عليه : أوامر الشرع ، فالجحود فيها رد ، والخلاف لا يكون ردا ، حتى لو ترك صوما أو صلاة : لم يكفر .

( وكذلك ) في أوامر العباد إذا وكله ببيع عين بألف ، فباعه بخمسمائة ، وسلم : لم تبطل الوكالة مع تحقق الخلاف ، ومع أن الوكالة جائزة غير لازمة - كالإيداع - . وعذره أن البيع لا يستغرق المدة ، فالأمر به لا يبطل بالخلاف ، والحفظ يستغرق المدة ، فيبطل الأمر به إذا خالف في بعض المدة هنا وهناك حتى يصير ضامنا ، ويشكل بالاستئجار للحفظ ، فإنه يستغرق المدة ثم لا يبطل بالخلاف من طريق الفعل . وعذره عن الإجارة أنها لازمة حتى لا يبطل بالجحود ضعيف ; لأن بطلان العقد " عنده " بفوات المعقود عليه ، واللازم وغير اللازم فيه سواء . إنما يفترق اللازم وغير اللازم فيما هو رد ، ثم في الاستئجار العقد ورد على منفعة الحافظ في المدة ، والمنفعة تحدث شيئا فشيئا ، فبترك الحفظ في بعض المدة يبطل العقد في ذلك القدر ، ويكون باقيا فيما وراءه كبقاء المعقود عليه ، فكذلك في الحفظ بغير بدل .

فأما استئجار الدابة إلى مكان فقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله : إن استأجرها ذاهبا وجائيا يبرأ عن الضمان بالعود إلى ذلك المكان ، فيصير ضامنا بالمجاوزة لوجود سبب الضمان ، ثم بالعود إلى ذلك المكان : لا يعود العقد بينهما . ولو سلمنا [ ص: 116 ] فنقول : العقد هناك يرد على منافع الدابة في ذلك المكان ، فبإخراج الدابة من ذلك المكان يفوت المعقود عليه أصلا ، وهنا العقد يرد على منفعة الحافظ ، وبالخلاف من طريق الفعل لم يفت جميع المعقود عليه ، إنما وقع التغير في التسليم في بعضه ; لأنه كان مأمورا بتسليم العين في المصر ، فإذا أخرجه يتغير التسليم ، من غير أن يفوت المعقود عليه ، حتى أن في الإجارة : لو حمل عليها حملا آخر في ذلك المكان ، ثم نزع : برئ عن الضمان لبقاء المعقود عليه ، وتمكن التغير كان في الاستيفاء ، ولأن المستأجر ضامن بالإمساك لا في المكان المأمور به ، وهو في الإمساك عامل لنفسه .

ألا ترى أنه لو أمسكها أياما في بيته : كان ضامنا . فلا يتحقق الرد منه بعد الخلاف إذا كان ممسكا لمنفعة نفسه ، فأما المودع لا يضمن بالإمساك ، بل بالاستعمال ، وقد زال ذلك كله ، حتى أن في الإجارة إذا لم يضمن بالإمساك : برئ بترك الخلاف ، على ما قال في الإجارات : إذا استأجرت المرأة ثوب صيانة لتلبسه أياما ، فلبست بالليل : كانت ضامنة ، فإذا جاء النهار برئت ; لأن الضمان عليها بالاستعمال ليلا - دون الإمساك - .

التالي السابق


الخدمات العلمية