( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت ) أي وترى أيها الرسول أو أيها السامع كثيرا من هؤلاء اليهود ، الذين اتخذوا دين الحق هزؤا ولعبا ، يسارعون فيما هم فيه من قول الإثم وعمله ، وهو كل ما يضر قائله وفاعله في دينه ودنياه ، وفي العدوان وهو الظلم وتجاوز الحقوق والحدود الذي يضر الناس ، وفي أكل السحت وهو الدنيء من المحرم - كما تقدم - ولم يقل : يسارعون إلى ذلك ; لأن المسارع إلى الشيء يكون خارجا عنه ، فيقبل عليه بسرعة ، وهؤلاء غارقون في الإثم والعدوان ، وإنما [ ص: 373 ] يسارعون في جزئيات وقائعهما ، كلما قدروا على إثم أو عدوان ابتدروه ، ولم ينوا فيه ( لبئس ما كانوا يعملون ) تقبيح للعمل الذي كانوا يعملونه في استغراقهم في المعاصي المفسدة لأخلاقهم ، وللأمة التي يعيشون فيها إن لم تنههم وتزجرهم على أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلم يكن يقوم به أحد منهم ، لا العلماء ولا العباد ; إذ كان الفساد قد عم الجميع ; ولذلك قال : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) أي هلا ينهى هؤلاء المسارعين فيما ذكر أئمتهم في التربية والسياسة وعلماء الشرع والفتوى فيهم عن قول الإثم كالكذب ، وأكل السحت كالرشوة ! لبئس ما كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار من الرضا بهذه الأوزار ، وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . روي عن أنه قال : ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية ; أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد ، وتركوا النهي عن البغي والفساد ، وإذا كان حبر الأمة ابن عباس يقول هذا ، فما قول علماء السوء الذين أضاعوا الدين وأفسدوا الأمة بترك هذه الفريضة ؟ ومن العجائب أننا نقرأ توبيخ القرآن لعلماء ابن عباس اليهود على ذلك ، ونعلم أن القرآن أنزل موعظة وعبرة ، ثم لا نعتبر بإهمال علمائنا لأمر ديننا ، وعناية علمائهم في هذا العصر بأمر دينهم ودنياهم ، وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى .
ومن مباحث البلاغة في التعبير التفرقة بين " يعملون " ، و " يصنعون " قال الراغب : الصنع : إجادة الفعل ; فكل صنع فعل ، وليس كل فعل صنعا ، ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب الفعل ، انتهى . وقال غيره : الصنع أخص من العمل ; فهو ما صار ملكة منه ، والعمل أخص من الفعل ; لأنه فعل بقصد ، وقال في الكشاف : كأنهم جعلوا " آثم " من مرتكبي المناكير ; لأن كل عامل لا يسمى صانعا ، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه ، وكان المعنى في ذلك أن مواقع المعصية مع الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا فرط في الإنكار كان أشد إثما من المواقع ، انتهى . والذي أفهمه أن معاصي العوام من قبيل ما يحصل بالطبع ; لأنه اندفاع مع الشهوة بلا بصيرة ، ومعصية العلماء بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف من قبيل الصناعة المتكلفة ; لفائدة للصانع فيها يلتمسها ممن يصنع له ، وما ترك العلماء النهي عن المنكر ، وهم يعلمون ما أخذ الله عليهم من الميثاق ، إلا تكلفا لإرضاء الناس ، وتحاميا لتنفيرهم منهم ، فهو إيثار لرضاهم على رضوان الله وثوابه ، والأقرب أن يكون من الصنع ، لا من الصناعة ، وهو العمل الذي يقدمه المرء لغيره يرضيه به .