ثم إنه بعد بيان هذه الحقيقة من حق الله والتقرب إليه ، بين له حقيقة أخرى ، وهي ما يجب للناس ، ولا سيما الإخوة ، بعضهم على بعض من احترام الدماء وحفظ الأنفس ، فقال : ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) أي بين له حاله ، وما تقتضيه من عدم مقابلته على جنايته بمثلها ، مؤكدا ذلك بالقسم ، وبجملة النفي الاسمية [ ص: 284 ] المقرون خبرها بالباء ، وهو أنه إن بسط يده - أي مدها - ليقتله بها لا يجزيه بالسيئة سيئة مثلها ، وأن هذه الجناية لا تأتي منه ولا تتفق مع صفاته وشمائله ; ذلك أنه لم يعبر عن نفسه بصيغة الفعل المضارع المنفي ، كما عبر بالماضي المثبت عن عمل أخيه ، وهو المتبادر في مقابلة الشيء بضده ، بل قال ( ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) أي لست بالذي يتصف بهذه الصفة المنكرة المنافية لتقوى الله تعالى ولا شك أن نفي الصفة أبلغ من نفي الفعل ، الذي هو عبارة عن الوعد بالترك ; لأنه عبارة عن وعد مؤكد ببيان سببه ، ثم أكده تأكيدا آخر ببيان علته ، وهو قوله : ( إني أخاف الله رب العالمين ) أن يراني باسطا يدي إلى الإجرام وسفك الدم بغير حق ، فإن ذلك يسخطه ، ويكون سبب عقابه ; لأنه رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه ، ويربيهم بفضله وإحسانه ; فالاعتداء على أرواحهم أعظم مفسد لهذه التربية ومعارض لها في بلوغ غاية استعدادها ، ومن يخاف الله لا يعتدي هذا الاعتداء . وهذا الجواب من الأخ التقي يتضمن أبلغ الموعظة وألطف الاستعطاف لأخيه العازم على الجناية ، ولا يقال : إنه كان يجوز له عليه ، حتى يحتاج إلى الجواب بأن شرع الدفاع عن نفسه ، ولو بقتل الصائل آدم لم يكن يبيح ذلك ، فإن هذا من الرجم بالغيب . ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " والدفاع قد يكون بما دون القتل " رواه إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه ; فالقاتل والمقتول في النار . قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ ! قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه أحمد والشيخان وغيرهم .
ولما كان مثل هذا التأمين والوعظ البليغ لا يؤثر في كل نفس قفى عليه هذا الأخ البار بالتذكير بعذاب الآخرة ، فقال : ( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ) أي إني أريد بما ذكرت من اتقاء مقابلة الجناية بمثلها أن ترجع أنت إن فعلتها متلبسا بإثمي وإثمك ; أي إثم قتلك إياي وإثمك الخاص بك ، الذي كان من شؤمه عدم قبول قربانك ، وهذا التفسير مأثور عن رضي الله عنه ، وفي وجه آخر ، وهو أنه مبني على كون القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام ; لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق للعباد ، لا يغفر الله تعالى منها شيئا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه ، وإنما ابن عباس ، فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوي حقه إن كان له حسنات توازي ذلك ، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إن كان له آثام أو أوزار ، وما نقص من هذا أو ذاك يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء في الجنة أو النار ، وفي ذكر المتكلم إثمه وإثم أخيه تواضع وهضم لنفسه بإضافة الإثم إليها على الوجه الثاني ، وتذكير للمخاطب بأنه ليس له حسنات توازي هذا الظلم الذي عزم عليه ; ولذلك رتب عليه قوله : ( القصاص في الآخرة بالحسنات والسيئات فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ) أي تكون بما حملت من الإثمين من [ ص: 285 ] أهل النار في الآخرة ; لأنك تكون ظالما ، والنار جزاء كل ظالم ، فتكون من أهلها حتما . ترقى في صرفه عن عزمه من التبرؤ إليه من سبب حرمانه من قبول قربانه ببيان سبب التقبل عند الله تعالى وهو التقوى ، إلى تنزيه نفسه من جزائه على جنايته بمثلها ، إلى تذكيره بما يجب من خوف الله تعالى رب العالمين ، الذي لا يرضيه ممن وهبهم العقل والاختيار إلا أن يتحروا إقامة سننه في تربية العالم وإبلاغ كل حي يقبل الكمال إلى كماله ، إلى تذكيره بأن المعتدي يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه بعدل الله تعالى في القصاص والجزاء إلى تذكيره بعذاب النار وكونها مثوى للظالمين الفجار ، فماذا كان من تأثير هذه المواعظ في نفس ذلك الحاسد الظالم ؟ بين الله ذلك بقوله :