إن الله يحكم ما يريد أي يمنع ما أراد منعه ، أو يجعله حكما وقضاء ، والحكم بمعنى المنع وبمعنى القضاء معروف في اللغة ، وإرادته إنما تكون على حسب علمه المحيط وحكمته البالغة ورحمته الواسعة ، فلا عبث في أحكامه ولا جزاف ولا خلل ولا ظلم يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله أي لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا تتصرفون بها كما تشاءون ، وهي معالمه التي جعلها أمارات تعلمون بها الهدى ; كمناسك الحج وسائر فرائضه وحدوده وحلاله وحرامه ، بل اعملوا فيها بما بينه لكم ولا الشهر الحرام ، قيل : المراد به هنا ذو القعدة ، وقيل : رجب ، والمتبادر أن المراد به جنس الشهر الحرام فيدخل فيه بقية الأربعة الحرم ، وهي ذو الحجة والمحرم ، وراجع تفسير قوله تعالى : ولا تحلوا الشهر الحرام باستئنافكم قتال المشركين فيه يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ( 2 : 217 ) في الجزء الثاني من التفسير ; لتقف على تتمة هذه المسألة ولا الهدي ولا القلائد ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله من الأنعام ; للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إليه تعالى ، وإحلاله يكون بمنع بلوغه إلى محله من بيت الله ; كأخذه لذبحه غصبا أو سرقة ، أو حبسه عند من أخذه ، ولا تحلوا القلائد التي يقلد بها هذا الهدي ، بنزع القلادة من عنق البعير ; لئلا يتعرض لها أحد يجهله . وقيل : المراد بالقلائد ذوات القلائد من الهدي كأنه قال : لا تحلوا الهدي [ ص: 104 ] مقلدا ولا غير مقلد ، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدي وأشرفه ، ويؤخذ من الكشاف أنهم ما كانوا يقلدون إلا البدن ( الإبل ) وقيل : الهدي هو ما لم يقلد ، وهذا كما قالوا في ولا يبدين زينتهن ( 24 : 31 ) : لا يبدين مواضع زينتهن ، وقد يدخل في عمومه من يتقلد من الناس ليعرف أنه محرم ، وكان من يريد الحج في الجاهلية ومن يرجع منه ، يتقلد من لحاء شجره ليأمن على نفسه ، فلا يعرض له أحد ، فأقر الله تأمين المقلد لتعلم العرب أن من تقلد لأجل النسك كان في جوار المسلمين وحمايتهم ، وبهذا فسر بعضهم الآية ، وقيل : إن المراد هنا المنع من أخذ شيء من شجر الحرم لأجل التقلد به عند العودة من أرض الحرم ; لأن هذا من استحلال قطع شجر الحرم أو التحائه ، أي : أخذ قشر شجره ، والظاهر أن المراد بالنهي تحريم التعرض للقلائد نفسها بإزالتها ، والتعرض للمقلد بها من الهدي ; لأن كل ذلك يعد من إحلال القلائد حقيقة ، فلا حاجة إلى القول بأن النهي عن إحلال القلائد يدل على النهي عن إحلال ذوات القلائد بالأولى ، وهذا هو المتبادر عندي ، وأما من يقصد الحرم للنسك أو غير النسك فقد حرم التعرض لهم بقوله : ولا آمين البيت الحرام أي ولا تحلوا قتال آمين البيت الحرام ، أي قاصديه المتوجهين إليه ، يقال : أمه ، ويممه ، وتيممه : إذا توجه إليه ، وعمده ، وقصد إليه قصدا مستقيما لا يلوي إلى غيره ، والبيت الحرام هو بيت الله المعروف بمكة المكرمة الذي حرمه وما حوله ، أي منع أن يصاد صيده ، وأن يقطع شجره وأن يختلى خلاه ; أي يؤخذ نباته وحشيشه ، وجعله آمنا لا يروع من دخله . راجع ومن دخله كان آمنا في أول الجزء الرابع .
يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا أي يطلبون بأمهم البيت وقصده التجارة والحج معا ، أو ربحا في التجارة ورضاء من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا ، فلا يحل بهم ما حل بغيرهم في عاجل دنياهم ، وبهذا فسره ورواه عن أهل الأثر ، بناء على أن المراد بالكلام هنا المشركون ، فروي عن ابن جرير قتادة أنه قال : هم المشركون يلتمسون فضل الله ، ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم ، وفي رواية أخرى عنه : والفضل والرضوان الذي يبتغون أن يصلح لهم معايشهم في الدنيا ، وألا يعجل لهم العقوبة فيها .
وروي عن مجاهد أنه قال : يبتغون الأجر والتجارة ، وعن أنه قال في الرجل يحج ويحمل معه متاعا " لا بأس به " وتلا الآية . ولم يرو فيها عن ابن عمر إلا أنه قال : " يترضون ربهم بحجهم " وروى ابن عباس عن عبد بن حميد ; أنه فسر الفضل من ربهم بالتجارة ، والرضوان بالحج نفسه ، ولهذا قال الربيع بن أنس قتادة ومجاهد وغيرهما : إن هذه العبارة من الآية منسوخة ، بقوله - تعالى - في سورة ( براءة ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( 9 : 5 ) [ ص: 105 ] وقال بعضهم : إنها نسخت بقوله - تعالى - في المشركين فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ( 9 : 28 ) وقال أبو مسلم : المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فلما زال العهد بسورة ( براءة ) زال ذلك الحظر . اهـ . أي لم ينسخ الحكم ، ولكن زال الوصف الذي نيط به . وقال بعض المفسرين : إن الآية في المسلمين ، فهي محكمة ، وحكمها باق فلم تنسخ ولم ينته حكمها ، ومن فسر القلائد بمن كان يتقلد من المشركين ، قال : إن النهي عن إحلالها منسوخ أيضا ، وقد روي أن هذه السورة من آخر القرآن نزولا ، وأنه ليس فيها شيء منسوخ .
أما ما رواه أهل المأثور في وكونها في المشركين ; فهو كما روى سبب نزول الآية عن ابن جرير أن السدي الحطم بن هندي البكري ، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده ، وخلف خيله خارجة من المدينة ، فدعاه ، فقال : إلام تدعو ؟ فأخبره ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة ، يتكلم بلسان شيطان ، فلما أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنظر ولعلي أسلم ، ولي من أشاوره . فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بعقب غادر ، فمر بسرح من سرح المدينة ، فساقه . . . ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد وأهدى ، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية حتى بلغ ولا آمين البيت الحرام فقال له ناس من أصحابه : " يا رسول الله ، خل بيننا وبينه فإنه صاحبنا ، قال : إنه قد قلد . قالوا : إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية . فأبى عليهم فنزلت هذه الآية " .
وروي عن عن ابن جريج عكرمة ، أن الحطم قدم المدينة في عير له يحمل طعاما ، فباعه ثم دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعه وأسلم ، فلما ولى خارجا نظر إليه ، فقال لمن عنده : " لقد دخل علي بوجه فاجر ، وولى بقفا غادر " فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة ، فلما سمع به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ; ليقطعوه في عيره ، فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله فانتهى القوم ( ثم قال ) قال ابن جرير : قوله : ابن جريج ولا آمين البيت الحرام قال : ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، قال : وذلك أن الحطم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر ، فقال : إني داعية قوم فأعرض علي ما تقول ، قال له : " أدعوك إلى الله أن تعبده ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت " قال الحطم : إن في أمرك هذا غلظة فأرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت ، فإن قبلوا أقبلت معهم وإن أدبروا كنت معهم . قال له : " ارجع " فلما خرج قال : " لقد دخل علي بوجه كافر وخرج من عندي بعقبى غادر ، وما الرجل [ ص: 106 ] بمسلم " ففاتهم وقدم اليمامة ، وحضر الحج ، فجهز خارجا ، وكان عظيم التجارة ، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه ، فأنزل الله ، عز وجل لا تحلوا شعائر الله إلخ . وأنت ترى هذه الروايات متعارضة ، وسواء صحت أو لم تصح ; فالآية على إطلاقها وعمومها ، والمفيد من مثل هذه الروايات معرفة أحوال أهل ذلك العصر ، فإنها تعين على الفهم .