وقد ذكر ذلك الشيخ والقاضي أبو حامد أبو الطيب وغير واحد، بينوا مخالفة وأبو إسحاق الشيرازي وغيره من الأئمة لقول الشافعي ابن كلاب في مسألة الكلام التي امتاز بها عن والأشعري ابن كلاب عن غيرهما، وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها [ ص: 99 ] اختصاص، بل ما قاله قاله غيرهما، إما من أهل السنة والحديث وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله والأشعري في مسألة الكلام، واتبعه عليه ابن كلاب فإنه لم يسبق الأشعري، إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه من رؤوس الطوائف، وأصله في ذلك هي مسألة الصفات الاختيارية، ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته تعالى: هل تقوم بذاته أم لا؟ فكان ابن كلاب فوافق السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا، والجهمية من المعتزلة وغيرهم ينكرون ذلك مطلقا، السلف والأئمة في إثبات الصفات، ووافق ابن كلاب الجهمية في نفي قيام الأفعال به تعالى وما يتعلق بمشيئته وقدرته.
ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه كالقلانسي ونحوهما، بأن في أقوالهم بقايا من الاعتزال، وهذه البقايا أصلها هو والأشعري الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال.
وقد ذكر في " رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب " أنه طريق مبتدع في دين الرسل، محرم عندهم، وكذلك غير الأشعري الأشعري، كالخطابي وأمثاله، يذكرون ذلك، لكن مع هذا من وافق لا يرى بطلان هذه الطريقة عقلا، وإن لم يقل: إن الدين محتاج إليها، فلما رأى من رأى صحتها لزمه: إما قول ابن كلاب أو ما يضاهيه. ابن كلاب،
وهذا الذي نقلوه - من إنكار وغيره على أبي حامد القاضي أبي بكر [ ص: 100 ] الباقلاني - هو بسبب هذا الأصل، وجرى له بسبب ذلك أمور أخرى، وقام عليه الشيخ أبو حامد والشيخ أبو عبد الله بن حامد وغيرهما من العلماء من أهل العراق وخراسان والشام، وأهل الحجاز ومصر، مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على الزنادقة والملحدين وأهل البدع، حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كلاب أجل منه ولا أحسن كتبا وتصنيفا، وبسببه انتشر هذا القول، وكان منتسبا إلى والأشعري وأهل السنة وأهل الحديث والسلف، مع انتسابه إلى الإمام أحمد مالك وغيرهما من الأئمة حتى كان يكتب في بعض أجوبته: والشافعي محمد بن الطيب الحنبلي وكان بينه وبين أبي الحسن التميمي وأهل بيته وغيرهم من التميميين من الموالاة والمصافاة ما هو معروف، كما تقدم ذكر ذلك، ولهذا غلب على التميميين موافقته في أصوله، ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام أحمد - موافق وأبو بكر البيهقي في أصوله - ذكر لابن الباقلاني أبو بكر اعتقاد الذي صنفه أحمد أبو الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي، وهو مشابه لأصول وقد حكى عنه: أنه كان إذا درس مسألة الكلام على أصول القاضي أبي بكر، ابن كلاب يقول: "هذا الذي ذكره والأشعري أبو الحسن أشرحه لكم وأنا لم تتبين لي هذه المسألة" فكان يحكى عنه الوقف فيها، إذ له في عدة من المسائل [ ص: 101 ] قولان وأكثركما تنطق بذلك كتبه، ومع هذا تكلم فيه أهل العلم، وفي طريقته التي أصلها هذه المسألة مما يطول وصفه، كما تكلم من قبل هؤلاء في ومن وافقه، حتى ذكر ابن كلاب قال: سمعت أبو إسماعيل الأنصاري أحمد بن أبي رافع وخلقا يذكرون شدة - على أبي حامد - يعني الإسفرايني قال: وأنا بلغت رسالة ابن الباقلاني، أبي سعد إلى ابنه سالم ببغداد: إن كنت تريد أن ترجع إلى هراة فلا تقرب قال: وسمعت الباقلاني، الحسين بن أبي أمامة المالكي يقول: سمعت أبي يقول: لعن الله أبا ذر الهروي، فإنه أول من حمل الكلام إلى الحرم، وأول من بثه في المغاربة.
قلت: فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية أبو ذر عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به، وكان قد قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة البخاري وحملها إلى الحرم، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم، ابن الباقلاني كأبي نصر السجزي، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني الصبغي والثقفي على طريقة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون، فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل ابن خزيمة [ ص: 102 ] الباجي فأخذ طريقة أبو الوليد أبي جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر، ورحل بعده القاضي فأخذ طريقة أبو بكر بن العربي أبي المعالي في " الإرشاد ".
ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم ؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم ؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، [ ص: 103 ] ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم [ سورة الحشر: 10].
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ سورة البقرة: 286].