وهذه الحجة ضعيفة ، ولعلها أضعف مما ضعفوه فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة :
أحدها : أن يقال :
nindex.php?page=treesubj&link=28722القول في أفعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته ، كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته . فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال ، فقالوا : الفعل إن كان صفة كمال لزم عدم الكمال له في الأزل ، وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص . فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال .
وهذا كما أن من حجج النفاة أنه لو كان قابلا لقيام الحادث به لكان القبول من لوازم ذاته ، ووجود المقبول في الأزل محال .
[ ص: 4 ]
فأجيبوا بأنه لا فرق بين حدوث ما يقوم به أو بغيره .
فإذا قيل : لو كان قادرا على فعل الحوادث لكان ذلك من لوازم ذاته ، وذلك في الأزل محال ، فما كان جوابا عن هذا كان جوابا عن هذا .
وقد أورد
الرازي على ذلك في بعض كتبه أن القادر يتقدم المقدور ، والقابل لا يجب أن يتقدم المقبول ، وهذا فرق في غاية الضعف لوجوه :
أحدها : أن الكلام إنما هو في مقبول مقدور ، لا في مقبول غير مقدور . فإن ما كان حادثا فالرب قادر عليه ، وهو قادر على أفعاله القائمة به ، كما هو قادر على مفعولاته المنفصلة .
قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=40أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [سورة القيامة : 40] وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=65قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية [سورة الأنعام : 65] وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=81أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [سورة يس : 81] وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=29وهو على جمعهم إذا يشاء قدير [سورة الشورى : 29] ، فبين أنه قادر على الإحياء والبعث ، والخلق والجمع ، وهذه أفعال . وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=660144قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود البدري لما [ ص: 5 ]
رآه يضرب عبدا له : "لله أقدر عليك منك عليه" فتعين أنه قادر عليه نفسه .
والمقصود هنا أن الكلام إنما هو في الحوادث التي هي مقدورة ، ليس في كل مقبول . فإذا كان المقدور لا يوجد في الأزل امتنع وجود الحوادث كذلك ، فلا يصح أن يفرق بين مقبول مقدور ومقبول غير مقدور ، إذ كلاهما مقدور .
الوجه الثاني : أن يقال : إما أن يكون وجود الحادث في الأزل ممكنا ، وإما أن يكون ممتنعا . فإن كان ممكنا أمكن وجود المقدور في الأزل ، وإن كان ممتنعا امتنع وجوده مقبولا ومقدورا .
الثالث : أن يقال : إثبات المقدور حال امتناع المقدور جمع بين المتناقضين ، فلا يعقل إثبات القدرة في حال امتناع المقدور ، بل في حال إمكانه . ولهذا أنكر المسلمون وغيرهم على من قال من أهل الكلام : إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل . وقالوا هذا جمع بين المتناقضين . وقالوا : إنه يستلزم انتقال المقدور من الإمكان إلى الامتناع ، بدون سبب يوجب هذا الانتقال ، ويوجب أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن قادرا بدون سبب يوجب ذلك . وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع .
[ ص: 6 ]
الوجه الثاني : أن يقال : كونه بحيث يتكلم ويفعل ما يشاء صفة كمال ، وهو لم يزل متصفا بذلك ، وأما الشيء المعين فحدوثه لا نقص ولا كمال .
الوجه الثالث : أن يقال : ما تعني بقولك عدم ذلك نقص ؟ أتعني به أن ذاته ناقصة ، وأنها ليست متصفة بصفات الكمال الواجبة لها ؟ أم تعني به عدم ما سيوجد لها ؟ أما الأول فباطل ، وأما الثاني فلم قلت : إن هذا ممتنع ؟
الوجه الرابع : أن يقال : أنتم قلتم ما ذكره أبو المعالي والرازي وغيرهما ، من أن تنزيهه عن النقائص إنما علم بالسمع لا بالعقل . فإذا قلتم : إنه ليس في العقل ما ينفي ذلك ، لم يبق نفي ذلك إلا بالسمع ، الذي هو الإجماع عندكم . ومعلوم أن السمع الذي هو الإجماع ، والإجماع وغيره لم ينف هذه الأمور ، وإنما نفى ما يناقض صفات الكمال ، كالموت المنافي للحياة ، والسنة والنوم المنافي للقيومية ، واللغوب المنافي لكمال القدرة .
ولهذا كان الصواب
nindex.php?page=treesubj&link=29625أن الله منزه عن النقائص شرعا وعقلا . فإن
[ ص: 7 ]
العقل كما دل على اتصافه بصفات الكمال ، من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام ، دل أيضا على نفي أضداد هذه . فإن إثبات الشيء يستلزم نفي ضده ، ولا معنى للنقائص إلا ما ينافي صفات الكمال .
وأيضا فكل كمال اتصف به المخلوق - إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما - فالخالق أحق به ، لأنه هو الذي خلقه ، وكل كمال اتصف به موجود ممكن وحادث ، فالموجود الواجب القديم أولى به ، وكل نقص تنزه عنه مخلوق موجود حادث - إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما - فالخالق أولى بتنزيهه عنه .
الوجه الخامس : أن يقال : إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا علم لها ولا قدرة ولا حياة ، ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر ، أو لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات ، وذاتا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والكلام والمشيئة ، كان صريح العقل قاضيا بأن المتصفة بهذه الصفات التي هي صفات الكمال ، بل القابلة للاتصاف بها ، أكمل من ذات لا تتصف بهذه ، أو لا تقبل الاتصاف بها .
[ ص: 8 ]
ومعلوم بصريح العقل أن الخالق المبدع لجميع الذوات وكمالاتها أحق بكل كمال ، وأحق بالكمال الذي باين به جميع الموجودات ، وهذا الطريق ونحوه مما سلكه أهل الإثبات للصفات .
فيقال : وإذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا فعل لها ولا حركة ، ولا تقدر أن تصعد ولا تنزل ، ولا تأتي ولا تجيء ، ولا تقرب ولا تقبض ولا تطوي ، ولا تحدث شيئا بفعل يقوم بها ، وذاتا تقدر على هذه الأفعال ، وتحدث الأشياء بفعل لها ، كانت هذه الذات أكمل ، فإن تلك كالجماد أو الحي الزمن المجدع ، والحي أكمل من الجماد ، والحي القادر على العمل أكمل من العاجز عنه ، كما أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ، كالجماد أو كالأعمى الأصم الأخرس ، والحي أكمل من الجماد ، والحي الذي يسمع ويبصر ويتكلم أكمل من الأصم الأعمى الأخرس .
وإذا كان كذلك ، فإذا أراد نافي الفعل أن ينفيه لئلا يصفه في الأزل بالنقص ، فقال : لو كان فعالا بنفسه لكان الفعل المتأخر
[ ص: 9 ]
معدوما في الأزل ، وعدمه صفة نقص ، فكان متصفا بالنقص - كان بمنزلة من يقول : إنه لا يقدر أن يحدث الحوادث ولا يفعل ذلك ، لأنه لو قدر على ذلك وفعله ، لكان إحداثه للحادث الثاني معدوما قبل إحداثه ، وذلك نقص ، فيكون متصفا بالنقص .
فيقال : أنت وصفته بالكمال عن النقص ، حذرا من أن تصفه بما هو عندك نوع نقص ، فإن من لا يفعل قط ، ولا يقدر أن يفعل ، هو أعظم نقصا ممن يقدر على الفعل ويفعله ، والفعل لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء .
وهذه عادة النفاة ، لا ينفون شيئا من الصفات فرارا من محذور إلا لزمهم في النفي أعظم من ذلك المحذور ، كنفاة الصفات من الباطنية من المتفلسفة وغيرهم ، لما قيل لهم : إذا لم يوصف بالعلم والقدرة والحياة ، لزم أن يتصف بما يقابل ذلك ، كالعجز والجهل والموت .
فقالوا : إنما يلزم ذلك لو كان قابلا للاتصاف بذلك ، فإن المتقابلين تقابل السلب والإيجاب ، كالوجود والعدم ، إذا عدم أحدهما ثبت الآخر . وأما المتقابلان تقابل العدم والملكة ، كالحياة والموت ، والعمى والبصر ، فقد يخلو المحل عنهما ، كالجماد ، فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا .
[ ص: 10 ]
فيقال لهم : فررتم عن تشبيهه بالحيوان الناقص الذي لا يسمع ولا يبصر مع إمكان ذلك منه ، فشبهتموه بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا ، فكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه . ولهذا نظائر مبسوطة في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن من نفى الأفعال الاختيارية القائمة به ، لئلا يكون قبل وجود الحادث منها ناقصا ، كان قد وصفه بالنقص التام فرارا بزعمه مما يظنه نقصا .
الوجه السادس : أن يقال : الأفعال التي حدثت بعد أن لم تكن ، لم يكن وجودها قبل وجودها كمالا ، ولا عدمها نقصا ، فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده ، وما به يحصل الكمال ، وما ينبغي وجوده ، ونحو ذلك . والرب تعالى حكيم في أفعاله ، وهو المقدم والمؤخر ، فما قدمه كان الكمال في تقديمه ، وما أخره كان الكمال في تأخيره . كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة ، وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك . واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات .
الوجه السابع : أن يقال : الحوادث يمتنع قدمها ، ويمتنع أن توجد معا ، ولو وجدت معا لم تكن حوادث . ومعلوم أنه إذا دار الأمر بين
[ ص: 11 ] إحداث الحوادث وعدم إحداثها ، كان إحداثها أكمل ، ولا يكون إحداثها إلا مع عدم الحادث منها في الأزل .
وإذا كان كذلك صار هذا بمنزلة جعل الشيء موجودا معدوما ، فلا يقال عدم فعل هذا - أو عدم تعلق القدرة به - صفة نقص ، بل النقص عدم القدرة على جعله موجودا ، فإذا كان قادرا على ذلك كان موصوفا بصفة الكمال التي لا يمكن غيرها ، فكذلك المحدث للأمور المتعاقبة ، هو موصوف بالكمال الذي لا يمكن في الحدوث غيره .
الوجه الثامن : أن يقال : لا ريب أن الحوادث مشهودة ، وأن لها محدثا أحدثها ، فالمحدث لها : إما أن يحدثها بفعل اختياري يقوم به ، وإما أن تحدث عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به ولا حدوث شيء منه . ومعلوم أن اتصافه بالأول أولى لو كان الثاني ممكنا . فإن الأول فيه وصفه بصفة الكمال بخلاف الثاني ، فكيف والثاني ممتنع ، لأن حدوث الحوادث من غير سبب حادث ممتنع .
وإذا كان حال الفاعل قبل حدوثها كحاله مع حدوثها وبعد حدوثها ، وهي في الحالين حادثة ، لم يكن الفاعل قد فعل شيئا ولا أحدث شيئا ، بل حدثت بذاتها .
وهذا الدليل قد بسط في غير هذا الموضع ، وبين فساد قول
[ ص: 12 ] الفلاسفة الدهرية ، القائلين بأن حركات الأفلاك تصدر عن قديم أزلي لا يحدث منه شيء ، وأن قولهم أفسد من قول
المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام ، فإن هؤلاء الفلاسفة استدلوا على قدم العالم بحجتهم العظمى ، وهو أنه لو حدث بعد أن لم يكن لاحتاج إلى سبب حادث ، والقول في ذلك السبب كالقول فيه ، فيلزم التسلسل ، أو الترجيح بلا مرجح .
فيقال لهم : أنتم تقولون بحدوث الحوادث شيئا بعد شيء ، عن فاعل قائم بنفسه ، لا تقوم به صفة ولا فعل ، ولا يحدث له فعل ولا غير فعل . فقولكم بصدور الحوادث المختلفة الدائمة عمن لا فعل له ولا صفة ولا يحدث منه شيء ، أعظم فسادا من قول من يقول : إنه تارة تصدر عنه الحوادث وتارة لا تصدر ، فإنه إن كان صدور الحوادث عنه من غير حدوث شيء فيه محالا ، فصدورها دائما عنه من غير حدوث شيء فيه أشد إحالة .
الوجه التاسع : أن يقال : أفعال الله تعالى : إما أن يكون لها حكمة هي غايتها المطلوبة ، وإما أن لا يكون . والناس لهم في هذا المقام قولان مشهوران ، أحدهما قول من لا يثبت إلا المشيئة . والثاني قول من يثبت حكمة قائمة بالمخلوق ، أو حكمة قائمة بالخالق . والأقوال الثلاثة معروفة في الطوائف من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وغيرهم .
[ ص: 13 ] فإن نفيتم الحكمة جوزتم أن يفعل أفعالا لا يحصل له بها كمال ، فيقال لهم : قولوا في أفعاله القائمة بنفسه الاختيارية ما تقولونه في حدوث المفعولات عنه ، وهو الفعل عندكم .
وإن أثبتم الحكمة ، قيل لكم : الحكمة الحاصلة بالفعل الحادث حادثة بعده فحدوث هذه الحكمة بعد أن لم تكن ، سواء كانت قائمة بنفسه ، أو بغيره ، أهي صفة كمال أم لا ؟
فإن قلتم : صفة كمال ، فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة به .
وإن قلتم : ليست صفة كمال ، فقولوا أيضا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة .
فقد لزمكم في الحكمة ، إن أثبتموها أو نفيتموها ، ما يلزمكم في نفس الفعل سواء بسواء ، وهذا بين واضح .
الوجه العاشر : أن يقول من يثبت الفعل القائم به والحكمة القائمة به : معلوم بصريح العقل أن هذا صفة كمال ، وأن من يكون كذلك أكمل ممن لا يفعل أو يفعل لا لحكمة ، فلم قلتم : إن هذا ممتنع ؟
فإذا قيل : لئلا يلزم الكمال بعد النقص .
قيل لهم : لم قلتم : وجود مثل هذا الكمال ممتنع ؟
[ ص: 14 ] ولفظ "النقص" [لفظ] مجمل كما تقدم . فإن غايته أن يفسر بعدم ما وجد قبل أن يوجد ، فيعود الأمر إلى أن هذا الموجود إذا وجد بعد أن لم يكن ، لزم أن يكون معدوما قبل وجوده .
فيقال : ومن أين علمتم أن وجود هذا بعد عدمه محال ؟ وليس في ذلك افتقار الرب إلى غيره ، ولا استكماله بفعل غيره ، بل هو الحي الفعال لما يشاء ، العليم القدير الحكيم ، الخبير الرحيم الودود ، لا إله إلا هو ، وكل ما سواه فقير إليه ، وهو غني عما سواه ، لا يكمل بغيره ، ولا يحتاج إلى سواه ولا يستعين بغيره في فعل ، ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه ، ولا ضره فيضروه ، بل هو خالق الأسباب والمسببات ، وهو الذي يلهم عبده الدعاء ، ثم يجيبه وييسر عليه العمل ، ثم يثيبه ويلهمه التوبة ، ويحبه ويفرح بتوبته ، وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه ، ورضي عنهم فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه ، بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها ، وهو الذي خلق ما لا يحبه ولا يرضاه من أعمالهم ، لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=70وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [سورة القصص : 70] ، فلا إله إلا هو :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [سورة الأنبياء : 22] ، إذ كان هو الذي يستحق أن تكون العبادة له ، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه ،
[ ص: 15 ] فما لا يكون به لا يكون ، فإنه لا حول ولا قوة إلا به ، وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم . كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [سورة الفرقان : 23] ، وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=18مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء [سورة إبراهيم : 18] ، وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه ، والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوبا .
فإذا كنا إذا أحببنا شيئا لله هو المحبوب في الحقيقة ، وحبنا لذلك بطريق التبع ، وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله ، فالله تعالى يحب الذين يحبونه ، فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود ، وأن يكون غاية كل حب . كيف وهو سبحانه الذي يحمد نفسه ويثني على نفسه ، ويحب الحمد من خلقه .
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=942116لا أحد أحب إليه المدح من الله . وقال له الأسود بن سريع : يا رسول [ ص: 16 ] الله إني حمدت ربي بمحامد . فقال : إن ربك يحب الحمد .
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده :
nindex.php?page=hadith&LINKID=667349 "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك" . وقد روي أنه كان يقول ذلك في آخر الوتر .
فهو المثني على نفسه ، وهو كما أثنى على نفسه ، إذ أفضل خلقه لا يحصي ثناء عليه .
والثناء تكرير المحامد وتثنيتها ، كما في الحدث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=63784 "إذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي . فإذا قال : الرحمن الرحيم . قال : أثنى علي عبدي . فإذا قال : مالك يوم الدين . قال : مجدني عبدي" .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10050أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال : "ربنا ولك الحمد ، ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ، ولا [ ص: 17 ] معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" . فذكر الحمد والثناء والمجد هنا ، كما ذكره في أول الفاتحة ، فالحمد يتناول جنس المحامد ، والثناء يقتضي تكريرها وتعديدها والزيادة في عددها ، والمجد تعظيمها وتوسيعها والزيادة في قدرها وصفتها .
فهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والمجد ، ولا أحد يحسن أن يحمده كما يحمد نفسه ، ولا يثني عليه كما يثني على نفسه ، ولا يمجده كما يمجد نفسه .
كما في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر الذي في الصحيح ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=676707لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر : nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=67وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [سورة الزمر : 67] ، قال : "يقبض الله سماواته بيده ، والأرضون بيده الأخرى ، ثم يمجد نفسه فيقول : أنا الملك ، أنا القدوس ، أنا السلام ، أنا المؤمن ، أنا المهيمن ، أنا العزيز ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا ، أنا الذي أعدتها ، أين الملوك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ أو كما قال .
[ ص: 18 ] وفي الحديث الآخر
nindex.php?page=hadith&LINKID=701405يقول الله تعالى : إني جواد ، ماجد ، واجد ، إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون .
فصل
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ ، وَلَعَلَّهَا أَضْعَفُ مِمَّا ضَعَّفُوهُ فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يُبْطِلَهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=28722الْقَوْلُ فِي أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ الْحَادِثَةِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ، كَالْقَوْلِ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي هِيَ الْمَفْعُولَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ الَّتِي يُحْدِثُهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ ، فَقَالُوا : الْفِعْلُ إِنْ كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ لَزِمَ عَدَمُ الْكَمَالِ لَهُ فِي الْأَزَلِ ، وَإِنْ كَانَ صِفَةَ نَقْصٍ لَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ . فَأَجَابُوهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ صِفَةَ نَقْصٍ وَلَا كَمَالٍ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ مِنْ حُجَجِ النُّفَاةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِقِيَامِ الْحَادِثِ بِهِ لَكَانَ الْقَبُولُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ، وَوُجُودُ الْمَقْبُولِ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ .
[ ص: 4 ]
فَأَجِيبُوا بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حُدُوثِ مَا يَقُومُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ .
فَإِذَا قِيلَ : لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ الْحَوَادِثِ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ، وَذَلِكَ فِي الْأَزَلِ مُحَالٌ ، فَمَا كَانَ جَوَابًا عَنْ هَذَا كَانَ جَوَابًا عَنْ هَذَا .
وَقَدْ أَوْرَدَ
الرَّازِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّ الْقَادِرَ يَتَقَدَّمُ الْمَقْدُورَ ، وَالْقَابِلَ لَا يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَقْبُولَ ، وَهَذَا فَرْقٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَقْبُولٍ مَقْدُورٍ ، لَا فِي مَقْبُولٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ . فَإِنَّ مَا كَانَ حَادِثًا فَالرَّبُّ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ ، كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى مَفْعُولَاتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ .
قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=40أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [سُورَةُ الْقِيَامَةِ : 40] وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=65قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ الْآيَةَ [سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 65] وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=81أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [سُورَةُ يس : 81] وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=29وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [سُورَةُ الشُّورَى : 29] ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْبَعْثِ ، وَالْخَلْقِ وَالْجَمْعِ ، وَهَذِهِ أَفْعَالٌ . وَقَدْ
nindex.php?page=hadith&LINKID=660144قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ لَمَّا [ ص: 5 ]
رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ : "لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ" فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ نَفْسِهِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي هِيَ مَقْدُورَةٌ ، لَيْسَ فِي كُلِّ مَقْبُولٍ . فَإِذَا كَانَ الْمَقْدُورُ لَا يُوجَدُ فِي الْأَزَلِ امْتَنَعَ وُجُودُ الْحَوَادِثِ كَذَلِكَ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَقْبُولٍ مَقْدُورٍ وَمَقْبُولٍ غَيْرِ مَقْدُورٍ ، إِذْ كِلَاهُمَا مَقْدُورٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْحَادِثِ فِي الْأَزَلِ مُمْكِنًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا . فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا أَمْكَنَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا امْتَنَعَ وُجُودُهُ مَقْبُولًا وَمَقْدُورًا .
الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : إِثْبَاتُ الْمَقْدُورِ حَالَ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ ، فَلَا يُعْقَلُ إِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ فِي حَالِ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ ، بَلْ فِي حَالِ إِمْكَانِهِ . وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : إِنَّهُ قَادِرٌ فِي الْأَزَلِ مَعَ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ فِي الْأَزَلِ . وَقَالُوا هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ . وَقَالُوا : إِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ انْتِقَالَ الْمَقْدُورِ مِنَ الْإِمْكَانِ إِلَى الِامْتِنَاعِ ، بِدُونِ سَبَبٍ يُوجِبُ هَذَا الِانْتِقَالَ ، وَيُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ الرَّبُّ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا بِدُونِ سَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
[ ص: 6 ]
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَكَلَّمُ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ صِفَةَ كَمَالٍ ، وَهُوَ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ ، وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ فَحُدُوثُهُ لَا نَقْصٌ وَلَا كَمَالٌ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ : مَا تَعْنِي بِقَوْلِكَ عَدَمُ ذَلِكَ نَقْصٌ ؟ أَتَعْنِي بِهِ أَنَّ ذَاتَهُ نَاقِصَةٌ ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَّصِفَةً بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْوَاجِبَةِ لَهَا ؟ أَمْ تَعْنِي بِهِ عَدَمَ مَا سَيُوجَدُ لَهَا ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَ قُلْتَ : إِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ ؟
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : أَنْتُمْ قُلْتُمْ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْمَعَالِي وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، مِنْ أَنَّ تَنْزِيهَهُ عَنِ النَّقَائِصِ إِنَّمَا عُلِمَ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ . فَإِذَا قُلْتُمْ : إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ ، لَمْ يَبْقَ نَفْيُ ذَلِكَ إِلَّا بِالسَّمْعِ ، الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاعُ عِنْدَكُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعَ الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاعُ ، وَالْإِجْمَاعُ وَغَيْرُهُ لَمْ يَنْفِ هَذِهِ الْأُمُورَ ، وَإِنَّمَا نَفَى مَا يُنَاقِضُ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، كَالْمَوْتِ الْمُنَافِي لِلْحَيَاةِ ، وَالسِّنَةِ وَالنَّوْمِ الْمُنَافِي لِلْقَيُّومِيَّةِ ، وَاللَّغُوبِ الْمُنَافِي لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ .
وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ
nindex.php?page=treesubj&link=29625أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ شَرْعًا وَعَقْلًا . فَإِنَّ
[ ص: 7 ]
الْعَقْلَ كَمَا دَلَّ عَلَى اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ ، دَلَّ أَيْضًا عَلَى نَفْيِ أَضْدَادِ هَذِهِ . فَإِنَّ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ ضِدِّهِ ، وَلَا مَعْنَى لِلنَّقَائِصِ إِلَّا مَا يُنَافِي صِفَاتِ الْكَمَالِ .
وَأَيْضًا فَكُلُّ كَمَالٍ اتَّصَفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ - إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَقْصٌ بِوَجْهٍ مَا - فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ ، وَكُلُّ كَمَالٍ اتَّصَفَ بِهِ مَوْجُودٌ مُمْكِنٌ وَحَادِثٌ ، فَالْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَوْلَى بِهِ ، وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ مَوْجُودٌ حَادِثٌ - إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَقْصٌ بِوَجْهٍ مَا - فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنْ يُقَالَ : إِذَا عَرَضْنَا عَلَى الْعَقْلِ الصَّرِيحِ ذَاتًا لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ ، وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ ، أَوْ لَا تَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَذَاتًا مَوْصُوفَةً بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْمَشِيئَةِ ، كَانَ صَرِيحُ الْعَقْلِ قَاضِيًا بِأَنَّ الْمُتَّصِفَةَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْكَمَالِ ، بَلِ الْقَابِلَةَ لِلِاتِّصَافِ بِهَا ، أَكْمَلُ مِنْ ذَاتٍ لَا تَتَّصِفُ بِهَذِهِ ، أَوْ لَا تَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا .
[ ص: 8 ]
وَمَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْخَالِقَ الْمُبْدِعَ لِجَمِيعِ الذَّوَاتِ وَكَمَالَاتِهَا أَحَقُّ بِكُلِّ كَمَالٍ ، وَأَحَقُّ بِالْكَمَالِ الَّذِي بَايَنَ بِهِ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ ، وَهَذَا الطَّرِيقُ وَنَحْوُهُ مِمَّا سَلَكَهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ .
فَيُقَالُ : وَإِذَا عَرَضْنَا عَلَى الْعَقْلِ الصَّرِيحِ ذَاتًا لَا فِعْلَ لَهَا وَلَا حَرَكَةَ ، وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَصْعَدَ وَلَا تَنْزِلَ ، وَلَا تَأْتِيَ وَلَا تَجِيءَ ، وَلَا تَقْرُبَ وَلَا تَقْبِضَ وَلَا تَطْوِيَ ، وَلَا تُحْدِثَ شَيْئًا بِفِعْلٍ يَقُومُ بِهَا ، وَذَاتًا تَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ ، وَتُحْدِثُ الْأَشْيَاءَ بِفِعْلٍ لَهَا ، كَانَتْ هَذِهِ الذَّاتُ أَكْمَلَ ، فَإِنَّ تِلْكَ كَالْجَمَادِ أَوِ الْحَيِّ الزَّمِنِ الْمُجَدَّعِ ، وَالْحَيُّ أَكْمَلُ مِنَ الْجَمَادِ ، وَالْحَيُّ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ أَكْمَلُ مِنَ الْعَاجِزِ عَنْهُ ، كَمَا أَنَّ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَتَكَلَّمُ ، كَالْجَمَادِ أَوْ كَالْأَعْمَى الْأَصَمِّ الْأَخْرَسِ ، وَالْحَيُّ أَكْمَلُ مِنَ الْجَمَادِ ، وَالْحَيُّ الَّذِي يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِنَ الْأَصَمِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَإِذَا أَرَادَ نَافِي الْفِعْلِ أَنْ يَنْفِيَهُ لِئَلَّا يَصِفَهُ فِي الْأَزَلِ بِالنَّقْصِ ، فَقَالَ : لَوْ كَانَ فَعَّالًا بِنَفْسِهِ لَكَانَ الْفِعْلُ الْمُتَأَخِّرُ
[ ص: 9 ]
مَعْدُومًا فِي الْأَزَلِ ، وَعَدَمُهُ صِفَةُ نَقْصٍ ، فَكَانَ مُتَّصِفًا بِالنَّقْصِ - كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْدِثَ الْحَوَادِثَ وَلَا يَفْعَلَ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَفَعَلَهُ ، لَكَانَ إِحْدَاثُهُ لِلْحَادِثِ الثَّانِي مَعْدُومًا قَبْلَ إِحْدَاثِهِ ، وَذَلِكَ نَقْصٌ ، فَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِالنَّقْصِ .
فَيُقَالُ : أَنْتَ وَصَفْتَهُ بِالْكَمَالِ عَنِ النَّقْصِ ، حَذَرًا مِنْ أَنْ تَصِفَهُ بِمَا هُوَ عِنْدَكَ نَوْعُ نَقْصٍ ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَفْعَلُ قَطُّ ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ ، هُوَ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ وَيَفْعَلُهُ ، وَالْفِعْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَادِثًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ .
وَهَذِهِ عَادَةُ النُّفَاةِ ، لَا يَنْفُونَ شَيْئًا مِنَ الصِّفَاتِ فِرَارًا مِنْ مَحْذُورٍ إِلَّا لَزِمَهُمْ فِي النَّفْيِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ ، كَنُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ ، لَمَّا قِيلَ لَهُمْ : إِذَا لَمْ يُوصَفُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ ، لَزِمَ أَنْ يَتَّصِفَ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ ، كَالْعَجْزِ وَالْجَهْلِ وَالْمَوْتِ .
فَقَالُوا : إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الْمُتَقَابِلَيْنِ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ ، كَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، إِذَا عُدِمَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ . وَأَمَّا الْمُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ ، كَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ، وَالْعَمَى وَالْبَصَرِ ، فَقَدْ يَخْلُو الْمَحَلُّ عَنْهُمَا ، كَالْجَمَادِ ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا .
[ ص: 10 ]
فَيُقَالُ لَهُمْ : فَرَرْتُمْ عَنْ تَشْبِيهِهِ بِالْحَيَوَانِ النَّاقِصِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا ، فَكَانَ مَا فَرَرْتُمْ إِلَيْهِ شَرًّا مِمَّا فَرَرْتُمْ مِنْهُ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِهِ ، لِئَلَّا يَكُونَ قَبْلَ وُجُودِ الْحَادِثِ مِنْهَا نَاقِصًا ، كَانَ قَدْ وَصَفَهُ بِالنَّقْصِ التَّامِّ فِرَارًا بِزَعْمِهِ مِمَّا يَظُنُّهُ نَقْصًا .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنْ يُقَالَ : الْأَفْعَالُ الَّتِي حَدَّثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ ، لَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا قَبْلَ وُجُودِهَا كَمَالًا ، وَلَا عَدَمُهَا نَقْصًا ، فَإِنَّ النَّقْصَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا عُدِمَ مَا يُصْلِحُ وَجُودَهُ ، وَمَا بِهِ يَحْصُلُ الْكَمَالُ ، وَمَا يَنْبَغِي وُجُودُهُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالرَّبُّ تَعَالَى حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ ، وَهُوَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ ، فَمَا قَدَّمَهُ كَانَ الْكَمَالُ فِي تَقْدِيمِهِ ، وَمَا أَخَّرَهُ كَانَ الْكَمَالُ فِي تَأْخِيرِهِ . كَمَا أَنَّ مَا خَصَّصَهُ بِمَا خَصَّصَهُ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ فَقَدْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ ، وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ نَحْنُ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ . وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا يُحْدِثُهُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : الْحَوَادِثُ يَمْتَنِعُ قِدَمُهَا ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ تُوجَدَ مَعًا ، وَلَوْ وُجِدَتْ مَعًا لَمْ تَكُنْ حَوَادِثَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ
[ ص: 11 ] إِحْدَاثِ الْحَوَادِثِ وَعَدَمِ إِحْدَاثِهَا ، كَانَ إِحْدَاثُهَا أَكْمَلَ ، وَلَا يَكُونُ إِحْدَاثُهَا إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْحَادِثِ مِنْهَا فِي الْأَزَلِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الشَّيْءِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا ، فَلَا يُقَالُ عَدَمُ فِعْلِ هَذَا - أَوْ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِ - صِفَةُ نَقْصٍ ، بَلِ النَّقْصُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى جَعْلِهِ مَوْجُودًا ، فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ غَيْرُهَا ، فَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ لِلْأُمُورِ الْمُتَعَاقِبَةِ ، هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِي الْحُدُوثِ غَيْرُهُ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنْ يُقَالَ : لَا رَيْبَ أَنَّ الْحَوَادِثَ مَشْهُودَةٌ ، وَأَنَّ لَهَا مُحْدِثًا أَحْدَثَهَا ، فَالْمُحْدِثُ لَهَا : إِمَّا أَنْ يُحْدِثَهَا بِفِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ يَقُومُ بِهِ ، وَإِمَّا أَنْ تُحْدِثَ عَنْهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ وَلَا حُدُوثِ شَيْءٍ مِنْهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِالْأَوَّلِ أَوْلَى لَوْ كَانَ الثَّانِي مُمْكِنًا . فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ وَصْفُهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ بِخِلَافِ الثَّانِي ، فَكَيْفَ وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ ، لِأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٌ مُمْتَنِعٌ .
وَإِذَا كَانَ حَالُ الْفَاعِلِ قَبْلَ حُدُوثِهَا كَحَالِهِ مَعَ حُدُوثِهَا وَبَعْدَ حُدُوثِهَا ، وَهِيَ فِي الْحَالَيْنِ حَادِثَةٌ ، لَمْ يَكُنِ الْفَاعِلُ قَدْ فَعَلَ شَيْئًا وَلَا أَحْدَثَ شَيْئًا ، بَلْ حَدَثَتْ بِذَاتِهَا .
وَهَذَا الدَّلِيلُ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَبُيِّنَ فَسَادُ قَوْلِ
[ ص: 12 ] الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ ، الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ تَصْدُرُ عَنْ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ لَا يَحْدُثُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ اسْتَدَلُّوا عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ بِحُجَّتِهِمُ الْعُظْمَى ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَاحْتَاجَ إِلَى سَبَبٍ حَادِثٍ ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ كَالْقَوْلِ فِيهِ ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ ، أَوِ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ .
فَيُقَالُ لَهُمْ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، عَنْ فَاعِلٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ ، لَا تَقُومُ بِهِ صِفَةٌ وَلَا فِعْلٌ ، وَلَا يَحْدُثُ لَهُ فِعْلٌ وَلَا غَيْرُ فِعْلٍ . فَقَوْلُكُمْ بِصُدُورِ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلِفَةِ الدَّائِمَةِ عَمَّنْ لَا فِعْلَ لَهُ وَلَا صِفَةَ وَلَا يَحْدُثُ مِنْهُ شَيْءٌ ، أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ تَارَةً تَصْدُرُ عَنْهُ الْحَوَادِثُ وَتَارَةً لَا تَصْدُرُ ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صُدُورُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ فِيهِ مُحَالًا ، فَصُدُورُهَا دَائِمًا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ فِيهِ أَشَدُّ إِحَالَةً .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنْ يُقَالَ : أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى : إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا حِكْمَةٌ هِيَ غَايَتُهَا الْمَطْلُوبَةُ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ . وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ، أَحَدُهُمَا قَوْلُ مَنْ لَا يُثْبِتُ إِلَّا الْمَشِيئَةَ . وَالثَّانِي قَوْلُ مَنْ يُثْبِتُ حِكْمَةً قَائِمَةً بِالْمَخْلُوقِ ، أَوْ حِكْمَةً قَائِمَةً بِالْخَالِقِ . وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي الطَّوَائِفِ مِنْ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ .
[ ص: 13 ] فَإِنْ نَفَيْتُمُ الْحِكْمَةَ جَوَّزْتُمْ أَنْ يَفْعَلَ أَفْعَالًا لَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا كَمَالٌ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : قُولُوا فِي أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مَا تَقُولُونَهُ فِي حُدُوثِ الْمَفْعُولَاتِ عَنْهُ ، وَهُوَ الْفِعْلُ عِنْدَكُمْ .
وَإِنْ أَثْبَتُّمُ الْحِكْمَةَ ، قِيلَ لَكُمُ : الْحِكْمَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْفِعْلِ الْحَادِثِ حَادِثَةٌ بَعْدَهُ فَحُدُوثُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِغَيْرِهِ ، أَهِيَ صِفَةُ كَمَالٍ أَمْ لَا ؟
فَإِنْ قُلْتُمْ : صِفَةُ كَمَالٍ ، فَقُولُوا فِي نَفْسِ الْفِعْلِ الْحَادِثِ مَا قُلْتُمُوهُ فِي الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِهِ .
وَإِنْ قُلْتُمْ : لَيْسَتْ صِفَةَ كَمَالٍ ، فَقُولُوا أَيْضًا فِي نَفْسِ الْفِعْلِ الْحَادِثِ مَا قُلْتُمُوهُ فِي الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ .
فَقَدْ لَزِمَكُمْ فِي الْحِكْمَةِ ، إِنْ أَثْبَتُّمُوهَا أَوْ نَفَيْتُمُوهَا ، مَا يَلْزَمُكُمْ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ .
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنْ يَقُولَ مَنْ يُثْبِتُ الْفِعْلَ الْقَائِمَ بِهِ وَالْحِكْمَةَ الْقَائِمَةَ بِهِ : مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا صِفَةُ كَمَالٍ ، وَأَنَّ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ أَكَمَلُ مِمَّنْ لَا يَفْعَلُ أَوْ يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةٍ ، فَلِمَ قُلْتُمْ : إِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ ؟
فَإِذَا قِيلَ : لِئَلَّا يَلْزَمَ الْكَمَالُ بَعْدَ النَّقْصِ .
قِيلَ لَهُمْ : لِمَ قُلْتُمْ : وُجُودُ مِثْلِ هَذَا الْكَمَالِ مُمْتَنِعٌ ؟
[ ص: 14 ] وَلَفْظُ "النَّقْصِ" [لَفْظٌ] مُجْمَلٌ كَمَا تَقَدَّمَ . فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُفَسَّرَ بِعَدَمِ مَا وُجِدَ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ ، فَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَوْجُودَ إِذَا وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِهِ .
فَيُقَالُ : وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ أَنَّ وُجُودَ هَذَا بَعْدَ عَدَمِهِ مُحَالٌ ؟ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ افْتِقَارُ الرَّبِّ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَا اسْتِكْمَالُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، بَلْ هُوَ الْحَيُّ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ ، الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْحَكِيمُ ، الْخَبِيرُ الرَّحِيمُ الْوَدُودُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ ، لَا يَكْمُلُ بِغَيْرِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى سِوَاهُ وَلَا يَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ فِي فِعْلٍ ، وَلَا يَبْلُغُ الْعِبَادُ نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ ، وَلَا ضُرَّهُ فَيَضُرُّوهُ ، بَلْ هُوَ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ ، وَهُوَ الَّذِي يُلْهِمُ عَبْدَهُ الدُّعَاءَ ، ثُمَّ يُجِيبُهُ وَيُيَسِّرُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ ، ثُمَّ يُثِيبُهُ وَيُلْهِمُهُ التَّوْبَةَ ، وَيُحِبُّهُ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُرْضِيهِ ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَحْتَجْ فِي فِعْلِهِ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ إِلَى سِوَاهُ ، بَلْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مَا لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=70وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سُورَةُ الْقِصَصِ : 70] ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 22] ، إِذْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لَهُ ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ،
[ ص: 15 ] فَمَا لَا يَكُونُ بِهِ لَا يَكُونُ ، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ ، وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 23] ، وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=18مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 18] ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ عِبَادَهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ ، وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا .
فَإِذَا كُنَّا إِذَا أَحْبَبْنَا شَيْئًا لِلَّهِ هُوَ الْمَحْبُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَحُبُّنَا لِذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَعِ ، وَكُنَّا نُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ لِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمَأْلُوهَ الْمَعْبُودَ ، وَأَنْ يَكُونَ غَايَةَ كُلِّ حُبٍّ . كَيْفَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يَحْمَدُ نَفْسَهُ وَيُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَيُحِبُّ الْحَمْدَ مِنْ خَلْقِهِ .
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=942116لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ . وَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ : يَا رَسُولَ [ ص: 16 ] اللَّهِ إِنِّي حَمِدْتُ رَبِّيَ بِمَحَامِدَ . فَقَالَ : إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=667349 "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَبِكَ مِنْكَ ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْوِتْرِ .
فَهُوَ الْمُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَهُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ ، إِذْ أَفْضَلُ خَلْقِهِ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ .
وَالثَّنَاءُ تَكْرِيرُ الْمَحَامِدِ وَتَثْنِيَتُهَا ، كَمَا فِي الْحَدَثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=63784 "إِذَا قَالَ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي . فَإِذَا قَالَ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . قَالَ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي . فَإِذَا قَالَ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي" .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10050أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ : "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، مَلْءَ السَّمَاوَاتِ ، وَمَلْءَ الْأَرْضِ ، وَمَلْءَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَمَلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلَا [ ص: 17 ] مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجِدِّ مِنْكَ الْجِدُّ" . فَذَكَرَ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالْمَجْدَ هُنَا ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ، فَالْحَمْدُ يَتَنَاوَلُ جِنْسَ الْمَحَامِدِ ، وَالثَّنَاءُ يَقْتَضِي تَكْرِيرَهَا وَتَعْدِيدَهَا وَالزِّيَادَةَ فِي عَدَدِهَا ، وَالْمَجْدُ تَعْظِيمُهَا وَتَوْسِيعُهَا وَالزِّيَادَةُ فِي قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا .
فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ ، وَلَا أَحَدَ يُحْسِنُ أَنْ يَحْمَدَهُ كَمَا يَحْمَدُ نَفْسَهُ ، وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِ كَمَا يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يُمَجِّدُهُ كَمَا يُمَجِّدُ نَفْسَهُ .
كَمَا فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=676707لَمَّا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ : nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=67وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [سُورَةُ الزُّمَرِ : 67] ، قَالَ : "يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ ، وَالْأَرَضُونَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يُمَجِّدُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ، أَنَا الْقُدُّوسُ ، أَنَا السَّلَامُ ، أَنَا الْمُؤْمِنُ ، أَنَا الْمُهَيْمِنُ ، أَنَا الْعَزِيزُ ، أَنَا الْجَبَّارُ ، أَنَا الْمُتَكَبِّرُ ، أَنَا الَّذِي بَدَأْتُ الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ، أَنَا الَّذِي أَعَدْتُهَا ، أَيْنَ الْمُلُوكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ أَوْ كَمَا قَالَ .
[ ص: 18 ] وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=701405يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : إِنِّي جَوَّادٌ ، مَاجِدٌ ، وَاجِدٌ ، إِنَّمَا أَمْرِي إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
فَصْلٌ