الوجه السابع عشر
أن يقال:
nindex.php?page=treesubj&link=29616الذين يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات: من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك، إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة مجملة، تحتمل
[ ص: 209 ] معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه لفظا ومعنى يوجب تناولها لحق وباطل، فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع، فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقا محضا، لا شوب فيه، لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقا محضا لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
ولهذا قال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب على لسان
محمد صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [البقرة: 40-42]، فنهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمانه.
ولبسه به: خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=9ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [الأنعام: 9] .
ومنه التلبيس، وهو التدليس، وهو الغش؛ لأن المغشوش من النحاس تلبسه فضة تخالطه وتغطيه، كذلك إذا لبس الحق بالباطل يكون قد أظهر الباطل
[ ص: 210 ] في صورة الحق، فالظاهر حق، والباطن باطل، ثم قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [البقرة: 42] .
وهنا قولان.
قيل: إنه نهاهم عن مجموع الفعلين، وإن الواو واو الجمع التي يسميها نحاة
الكوفة واو الصرف، كما في قولهم: «لا تأكل السمك وتشرب اللبن»، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=142ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [آل عمران: 142] على قراءة النصب، وكما في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=34أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=35ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص [الشورى: 34-35] على قراءة النصب، وعلى هذا فيكون الفعل الثاني في قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وتكتموا الحق منصوبا، والأول مجزوما.
وقيل: بل الواو هي الواو العاطفة المشركة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون قد نهي عن الفعلين من غير اشتراط اجتماعهما، كما إذا قيل: لا تكفر وتسرق وتزن.
وهذا هو الصواب، كما في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون [آل عمران: 71] ولو ذمهم على الاجتماع لقال: وتكتموا الحق بلا نون، وتلك الآية نظير هذه.
ومثل هذا الكلام إذا أريد به النهي عن كل من الفعلين فإنه قد يعاد فيه حرف النفي، كما تقول: لا تكفر، ولا تسرق، ولا تزن.
ومنه قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: 29] .
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ
أَنْ يُقَالَ:
nindex.php?page=treesubj&link=29616الَّذِينَ يُعَارِضُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِمَا يُسَمُّونَهُ عَقْلِيَّاتٍ: مِنَ الْكَلَامِيَّاتِ وَالْفَلْسَفِيَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، إِنَّمَا يَبْنُونَ أَمْرَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ مُشْتَبِهَةٍ مُجْمَلَةٍ، تَحْتَمِلُ
[ ص: 209 ] مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً، وَيَكُونُ مَا فِيهَا مِنَ الِاشْتِبَاهِ لَفْظًا وَمَعْنًى يُوجِبُ تَنَاوُلَهَا لِحَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَبِمَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ يُقْبَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْبَاطِلِ لِأَجْلِ الِاشْتِبَاهِ وَالِالْتِبَاسِ، ثُمَّ يُعَارِضُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبَاطِلِ نُصُوصَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا مَنْشَأُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا، وَهُوَ مَنْشَأُ الْبِدَعِ، فَإِنَّ الْبِدْعَةَ لَوْ كَانَتْ بَاطِلًا مَحْضًا لَظَهَرَتْ وَبَانَتْ، وَمَا قُبِلَتْ، وَلَوْ كَانَتْ حَقًّا مَحْضًا، لَا شَوْبَ فِيهِ، لَكَانَتْ مُوَافِقَةً لِلسُّنَّةِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ لَا تُنَاقِضُ حَقًّا مَحْضًا لَا بَاطِلَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْبِدْعَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيمَا يُخَاطِبُ بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى لِسَانِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 40-42]، فَنَهَاهُمْ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِهِ.
وَلَبْسُهُ بِهِ: خَلَطَهُ بِهِ حَتَّى يَلْتَبِسَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=9وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الْأَنْعَامِ: 9] .
وَمِنْهُ التَّلْبِيسُ، وَهُوَ التَّدْلِيسُ، وَهُوَ الْغِشُّ؛ لِأَنَّ الْمَغْشُوشَ مِنَ النُّحَاسِ تَلْبِسُهُ فِضَّةٌ تُخَالِطُهُ وَتُغَطِّيهِ، كَذَلِكَ إِذَا لُبِّسَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ يَكُونُ قَدْ أُظْهِرَ الْبَاطِلُ
[ ص: 210 ] فِي صُورَةِ الْحَقِّ، فَالظَّاهِرُ حَقٌّ، وَالْبَاطِنُ بَاطِلٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 42] .
وَهُنَا قَوْلَانِ.
قِيلَ: إِنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ مَجْمُوعِ الْفِعْلَيْنِ، وَإِنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْجَمْعِ الَّتِي يُسَمِّيهَا نُحَاةُ
الْكُوفَةِ وَاوَ الصَّرْفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: «لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ»، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=142وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 142] عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=34أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=35وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشُّورَى: 34-35] عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْفِعْلُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ مَنْصُوبًا، وَالْأَوَّلُ مَجْزُومًا.
وَقِيلَ: بَلِ الْوَاوُ هِيَ الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ الْمُشْرِكَةُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَدْ نُهِيَ عَنِ الْفِعْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ اجْتِمَاعِهِمَا، كَمَا إِذَا قِيلَ: لَا تَكْفُرْ وَتَسْرِقْ وَتَزِنِ.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=71يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 71] وَلَوْ ذَمَّهُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لَقَالَ: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ بِلَا نُونٍ، وَتِلْكَ الْآيَةُ نَظِيرُ هَذِهِ.
وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ كُلٍّ مِنَ الْفِعْلَيْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعَادُ فِيهِ حَرْفُ النَّفْيِ، كَمَا تَقُولُ: لَا تَكْفُرْ، وَلَا تَسْرِقْ، وَلَا تَزِنِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: 29] .