ومن هذا الباب ما ذكره من تماثل الأجسام، وتناهي قواها، وأنها مركبة مفتقرة إلى مركب -فإن هذه المسائل مما تنازع فيها العقلاء، مع اتفاق المسلمين على أن الله ليس له مثل ولا تنتهي قوته، وأنه غير مفتقر إلى غيره.
فالمعنى الذي يرده النافي بلفظ الجسم يوافقه المثبت عليه.
وإذا تنازعوا بعد هذا لم يكن نزاعهم إلا لفظيا، وليس لإطلاق لفظ واحد منهما أصل في الشرع: لا هذا ولا هذا.
فالشرع لم يسكت عن المعنى الذي يجب نفيه، الذي ينفيه النافي بلفظ الجسم، بل نفاه الشرع [ ص: 316 ] فلا يقال: إن الشرع سكت عما يحتاج إلى معرفته من معنى الجسم نفيا وإثباتا.
ثم إذا كان المعنى الذي يريده النافي يمكنه نفيه بالشرع وبالعقل، بدون إطلاق لفظ متنازع في أحكام معناه، كان نفي ذلك المعنى بما ينفيه من الأدلة الشرعية والعقلية، التي لا يمكن النزاع فيها، هو المشروع، دون بقية معان متنازع فيها هي طويلة متعبة بلا نزاع، وقد تكون مع ذلك باطلة.
ومن المعلوم أن من ترك سلك الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مكة، وسلك طريقا بعيدة لغير مصلحة راجحة، كان تاركا لما يؤمر به، فاعلا لما لا فائدة فيه، أو ما ينهى عنه، إذا كانت تلك الطريق موصلة إلى المقصود. فأما مع الاسترابة في كونها موصلة أو مهلكة، فإنه لا يجوز سلوكها.
وهذه الطرق التي يسلكها نفاة الجسم وأمثالهم، أحسن أحوالها أن تكون عوجا طويلة، قد تهلك، وقد توصل؛ إذ لو كانت مستقيمة موصلة، لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة؟!
ولا ريب أن الذين يعارضون الكتاب والسنة إنما يعارضونها بطرق هؤلاء، فهم يعرضون عن كتاب الله في أول سلوكهم، ويعارضونه في منتهى سلوكهم.
وقال قال تعالى: [ ص: 317 ] فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [طه: 123-124].
فقد بين أن حذاق الفلاسفة أيضا يثبتون أن التصديق بما جاء به الشارع لا يتوقف على شيء من الطرق الكلامية المحدثة، ولا شيء من طرقهم الفلسفية.
وإنما غايتهم أن يقولوا: إن الطرق الفلسفية تفيد علما لبعض الناس، ليس مما يجب ولا يستحب لجمهور الناس، وأن ذلك العلم الخاص يخالف بعض الظاهر المعروف عند الجمهور.
ونحن نقبل من كلامهم ما أقاموا عليه الحجة الصحيحة، سواء كانت شرعية أو عقلية. فأما إذا قالوا ما نعلم بطلانه رددناه.
وقد نبهنا على أن قولهم فيما يدعون الاختصاص به من علم الباطن، أضعف بكثير من قول من بينوا فساد قوله من المعتزلة والأشعرية.
وقد تبين لك أن الطوائف التي في كلامها ما يعارضون به كلام الشارع من العقليات، سواء عارضوا به في الظاهر والباطن، كل منهم يقول جمهور العقلاء: إن عقلياته تلك باطلة ويبينون فساد عقلياته بالعقليات الصحيحة الصريحة التي لا يمكن ردها.
وهذا مما ينصر الله به رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، فإن الله تعالى إذا أقام لكل طائفة تعارض الرسول من جنسها من يبين فساد قولها المعارض له، ويكشف جهلها وتناقضها -كان بمنزلة أن يقيم لكل طائفة تريد محاربته من جنسها من يحاربها بالسلاح.