قوله عز وجل:
إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
هذا إخبار من الله عز وجل عن حال أهل الجنة بعد ذكره أهوال يوم القيامة وحالة الكفار. وقرأ ، نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وطلحة وخالد بن إلياس: "في شغل" بضم الشين وسكون الغين، وقرأ الباقون: "في شغل" بالضم فيهما، وهي قراءة أهل المدينة والكوفة، وقرأ ، مجاهد أيضا بالفتح فيهما، وقرأ وأبو عمرو ابن هبيرة على المنبر بفتح الشين وسكون الغين، وهي كلها بمعنى واحد.
واختلف الناس في تعيين هذا الشغل، فقال ، ابن مسعود ، وابن عباس : افتضاض الأبكار، وحكى وابن المسيب عن النقاش رضي الله عنهما: سماع الأوتار، وقال ابن عباس : معناه نعيم قد شغلهم، وهذا هو القول الصحيح، وتعيين شيء دون شيء لا قياس له، ولما كان النعيم كله نوعا واحدا من حيث هو نعيم وحده فقال: "في شغل"، ولو اختلف لقال: في أشغال، وحكى مجاهد عن الثعلبي أنه قال: لو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما هنأهم ما شغلوا به، قال طاوس : وسئل بعض العلماء عن قوله عليه الصلاة والسلام: الثعلبي "أكثر أهل الجنة البله"، فقال: لأنهم شغلوا بالنعيم عن المنعم.
[ ص: 258 ] وقرأ جمهور الناس: "فاكهون" ومعناه: أصحاب فاكهة، كما يقال: تامر ولابن وشاحم ولاحم، وقرأ ، أبو رجاء ، ومجاهد أيضا، ونافع : "فكهون" ومعناه: فرحون طربون، مأخوذ من: الفكاهة، أي: لا هم لهم، وقرأ وأبو جعفر ، طلحة ، وفرقة: "فاكهين"، جعلت الخبر في الظرف الذي هو قوله: "في شغل"، ونصب "فاكهين" على الحال. والأعمش
قوله تعالى: هم وأزواجهم في ظلال "هم" ابتداء، "وأزواجهم" معطوف عليه، "في ظلال"خبره، ويحتمل أن يكون "هم" بدلا من قوله: "فاكهون"، ويكون قوله: "في ظلال" في موضع الحال، كأنه قال: مستظلين. وقرأ الجمهور: "في ظلال"، وهو جمع "ظل"; إذ الجنة لا شمس فيها، وإنما هواؤها سجسج، كوقت الإسفار قبل طلوع الشمس، ويحتمل أن يكون جمع (ظلة)، قال : كبرمة وبرام، وغير ذلك، وقال أبو علي : ظلال: جمع ظلة بكسر الظاء. منذر بن سعيد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهي لغة في ظلة. وقرأ ، حمزة : "في ظلل"، وهي جمع ظلة، وهي قراءة والكسائي عبد الله ، وطلحة وأبي عبد الرحمن ، وهذه عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل وهي زينة.
و"الأرائك": السرر المفروشة، قال بعض الناس: من شروطها أن تكون عليها حجلة وإلا فليست بأريكة، وبذلك قيدها ، ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقال بعضهم: الأريكة: السرير كان عليه حجلة أو لم تكن. وعكرمة
وقوله: ما يدعون بمنزلة: ما يتمنون، قال : العرب تقول: "ادع علي ما شئت"، بمعنى: تمن علي، وتقول: "فلان فيما ادعى"، أي: فيما دعى به; لأنه افتعل، من دعا يدعو، وأصل هذا الفعل: يدتعيون، نقلت حركة الياء إلى العين قبلها، وحذفت الياء لاجتماعها مع الواو الساكنة، فبقي يدتعون، وقلبت التاء دالا وأدغمت في الأخرى، وخصت الدال بالبقاء دون التاء لأنها حرف جلد والتاء حرف همس، قال [ ص: 259 ] أبو عبيدة : المعنى: إن من ادعى شيئا فهو له: لأنه قد هذبت طباعهم فلا يدعون إلا ما يحسن منهم. الرماني
وقوله: "سلام"، قيل: هي صفة لـ"ما"، أي: مسلم لهم وخالص، وقيل: هو ابتداء، وقيل: خبر ابتداء، وقرأ ، ابن مسعود ، وعيسى الثقفي ، وأبي بن كعب والغنوي: "سلاما" بالنصب على المصدر، وقرأ : "سلم" وهو بمعنى (سلام). و"قولا" نصب على المصدر. محمد بن كعب القرظي
وقوله تعالى: وامتازوا اليوم الآية، فيه حذف تقديره: ويقول للكفرة، وهذه معادلة لقوله لأصحاب الجنة: "سلام". و"امتازوا" معناه: انفصلوا وانحازوا; لأن العالم في الموقف إنما هم مختلطون. ثم خاطبهم بما يميزون به توبيخا لهم وتوقيفا على عهده إليهم ومخالفتهم عهده. وقرأ الجمهور: "أعهد" بفتح الهاء، وقرأ الهذلي ، : "ألم إعهد" بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغة من يكسر أول المضارع سوى الياء، وروي عن وابن وثاب "اعهد" بكسر الهاء، يقال: عهد وعهد. و"عبادة الشيطان": طاعته والانقياد لأعوانه. وقرأ ابن وثاب ، ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : "وأن اعبدوني" بضم النون من "أن"، وأتبعوا بها ضمة الباء والدال وواو الجماعة أيضا. وقرأ والكسائي ، عاصم ، وأبو عمرو : "وأن اعبدوني" بكسر النون على أصل الكسر للالتقاء. وقوله: وحمزة هذا صراط مستقيم إشارة إلى الشرائع، فمعنى [ ص: 260 ] هذا أن الله عهد إلى بني آدم وقت إخراج نسمهم من ظهره: أن لا يعبدوا الشيطان وأن تعبدوا الله، وقيل لهم: هذه الشرائع موجودة، وبعثآدم عليه السلام إلى ذريته، ولم تخل الأرض من شريعة إلى ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم. و"الصراط" الطريق، ويقال: إنها دخيلة في كلام العرب وعربتها.