الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالو النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار

التقدير: الأمر هذا، ويحتمل أن يكون التقدير: هذا واقع، أو نحوه، و"الطاغي": المفرط في الشر، مأخوذ من: طغى يطغى، والطغيان هنا في الكفر، و"المآب": المرجع، و"جهنم" بدل من قوله: لشر مآب ، و يصلونها معناه: يباشرون حرها وحرقها، و"المهاد": ما يفترشه الإنسان ويتصرف به.

وقوله تعالى: هذا فليذوقوه يحتمل أن يكون "هذا" ابتداء، والخبر "حميم"، ويحتمل أن يكون التقدير: الأمر هذا فليذوقوه، ويحتمل أن يكون "هذا" في موضع نصب بفعل يدل عليه "فليذوقوه"، و"حميم"، على هذا خبر ابتداء مضمر. قال ابن [ ص: 358 ] زيد: الحميم: دموعهم تجتمع في حياض فيسقونها. وقرأ الجمهور: "وغساق" بتخفيف السين، وهو اسم بمعنى السائل، يروى عن قتادة أنه ما يسيل من صديد أهل النار، ويروى عن السدي أنه ما يسيل من عيونهم، ويروى عن كعب الأحبار أنه ما يسيل من حمة عقارب النار، وهي - يقال - مجتمعة في عين هنالك، وقال الضحاك : هو أشد الأشياء بردا، وقال عبد الله بن بريدة : هو أنتن الأشياء، ورواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : "وغساق" بتشديد السين، بمعنى: سيال، وهي قراءة قتادة ، وابن أبي إسحاق ، وابن وثاب ، وطلحة . والمعنى فيه على ما قدمناه من الاختلاف، غير أنها قراءة ضعف: لأن "غساقا" إما أن يكون صفة فيجيء في الآية حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وذلك غير مستحسن هنا، وإما أن يكون اسما فالأسماء على هذا الوزن قليلة في كلام العرب كالقياد ونحوه.

وقرأ جمهور الناس: "وآخر" بالإفراد، وهو رفع بالابتداء، واختلف في تقدير خبره، فقالت طائفة: تقديره: ولهم عذاب آخر، وقالت طائفة: خبره: "أزواج"، و من شكله أن يخبر بالجميع الذي هو "أزواج" عن الواحد من حيث ذلك الواحد درجات ورتب من العذاب، وقوي وأقل منه، وأيضا فمن جهة أخرى على أن يسمى كل جزء من ذلك باسم الكل، كما قالوا: "وشابت مفارقه" فجعلوا كل جزء من المفرق مفرقا، وكما قالوا: "جمل ذو عثانين"، ونحو هذا، ألا ترى أن جماعة من المفسرين قالوا: إن هذا الآخر هو الزمهرير، فكأنهم جعلوا كل جزء منه زمهريرا. وقرأ أبو عمرو وحده: "وأخر" على الجمع، وهي قراءة الحسن، ومجاهد ، والجحدري، وابن جبير ، وعيسى ، وهو رفع بالابتداء، وخبره "أزواج"، و"من شكله" في موضع الصفة. ورجح أبو عبيد هذه القراءة، وأبو حاتم بكون الصفة جمعا، ولم ينصرف (أخر) لأنه معدول عن الألف واللام صفة، وذلك أن حق "أفعل" وجمعه أن لا يستعمل إلا بالألف واللام، فلما استعملت "أخر" دون الألف واللام كان ذلك عدلا لها، وجاز في "أخر" أن يوصف بها النكرة كقوله تعالى: فعدة من أيام أخر ، بخلاف جميع [ ص: 359 ] ما عدل عن الألف واللام كسحر ونحوه في أنه لا يجوز أن يوصف به النكرة لأن هذا العدل في "أخر" اعتد به في منع الصرف، ولم يعتد به في الامتناع من صفة النكرة، كما يعتدون بالشيء في حكم دون حكم، نحو اللام في قولهم: "لا أبا لك"، واللام المتصلة بالكاف اعتد بها فاصلة للإضافة، ولذلك جاز دخول "لا"، ولم يعتد بها في أن أعرب "أبا" بالحرف، وشأنه - إذا انفصل ولم يكن مضافا - أن يعرب بالحركات، فجاءت "اللام" ملغاة الحكم من حيث أعرب بالحركات كأنه مضاف، وهي معتد بها فاصلة في أن جوزت دخول "لا". وقرأ مجاهد : "من شكله" بكسر الشين. و"أزواج" معناه: أنواع، والمعنى: لهم حميم وغساق وأغذية أخر من ضرب ما ذكر ونحوه و أنواع كثيرة.

وقوله تعالى: هذا فوج هو ما يقال لأهل النار إذا سيق عامة الكفار وأتباعهم; لأن رؤساءهم يدخلون النار أولا، والأظهر أن قائل ذلك لهم: ملائكة العذاب، وهو الذي حكاه الثعلبي وغيره، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض، فيقول البعض الآخر: لا مرحبا بهم ، أي: لا سعة مكان ولا خير يلقونه. و"الفوج": الفريق من الناس، وقوله تعالى: بل أنتم لا مرحبا بكم حكاية لقول الأتباع حين سمعوا قول الرؤساء. أنتم قدمتموه لنا معناه: بإغوائكم أسلفتم لنا ما أوجب هذا، فكأنكم فعلتم بنا هذا.

وقوله تعالى: قالوا ربنا حكاية لقول الأتباع أيضا، دعوا على رؤسائهم بأن يكون عذابهم مضاعفا.

التالي السابق


الخدمات العلمية