الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 274 ] قوله عز وجل:

فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون

الاستفتاء نوع من أنواع السؤال، وكأنه سؤال من يهتبل بقوله ويجعل حجة، وكذلك هي أقوالهم في هذا الفاصل، لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الأمم والملائكة والإنس والجن والسموات والأرض والمشارق وغير ذلك، هو أشد من هؤلاء المخاطبين، وبأن الضمير في "[خلقنا]" يراد به ما تقدم ذكره، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: وفي مصحف ابن مسعود : [أم من عددنا] يريد من الصافات وغيرها، والسماوات والأرض وما بينهما، وكذلك قرأ الأعمش ، "أمن" مخففة الميم دون "أم".

ثم أخبر تعالى إخبارا جزما عن خلقه لآدم الذي هو أبو البشر، وأضاف الخلق من الطين إلى جميع الناس من حيث الأب مخلوق منه، وقال الطبري : خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء، وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا، وهو اللازم، أي: يلازم ما جاوره ويلصق به، وهو الصلصال كالفخار، وعبر ابن عباس ، وعكرمة عن اللازب بالحر، أي الكريم الجيد، وحقيقة المعنى ما ذكرناه، يقال: ضربة لازب ولازم" بمعنى واحد.

وقرأ الجمهور: "عجبت" بفتح التاء، أي يا محمد من إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله. وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء، ورويت عن علي، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن وثاب ، والنخعي ، وطلحة ، وسفيان ، والأعمش ، وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب، ومعنى ذلك من الله سبحانه أنه صفة فعل، كقوله عليه الصلاة والسلام: "تعجب الله تعالى إلى قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل"، [ ص: 275 ] وقوله: " تعجب الله من الشاب ليست له صبوة"، فإنما هي عبارة عما يظهره في جانب منه، فمعنى هذه الآية: بل عجبت من ضلالهم وسوء نحلتهم، وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن معها من شرعي وهداي متعجبا، وروي عن شريح إنكار هذه القراءة، وقال: إن الله تعالى لا يعجب، وقال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: إن شريحا كان معجبا بعلمه، وإن عبد الله أعلم منه. وقال مكي ، وعلي بن سليمان في كتاب الزهراوي : هو إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه، كأنه قال: "قل لهم: عجبت"، وقوله: "ويسخرون" أي: وهم يسخرون من نبوتك والحق الذي عندك.

وقوله تعالى: "يستسخرون" يريد: بالآية، وهي العلامة والدلالة، وروي أنها نزلت في ركانة، وهو رجل مكي مشرك، لقي النبي صلى الله عليه وسلم في جبل خال وهو يرعى غنما له، وهو أقوى أهل زمانه، فقال له: يا ركانة، إن أنا صرعتك أتؤمن بي؟ قال: نعم، فصرعه ثلاثا، ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها، ونحو ذلك مما اختلف فيه ألفاظ الحديث، فلما فرغ من ذلك كله لم يؤمن، وجاء إلى مكة فقال: يا بني هاشم، ساحروا بصاحبكم هذا أهل الأرض، فنزلت الآية فيه وفي نظرائه. و"يستسخرون" معناه: يطلبون أن يكونوا ممن يسخر، ويجوز أن يكون بمعنى: يسخر، كقوله: "واستغنى الله"، فيكون فعل واستفعل بمعنى، وبهذا فسره مجاهد وقتادة ، وفي بعض [ ص: 276 ] القراءات القديمة: "يستسحرون" بالحاء غير منقوطة، وهذه عبارة عما قال ركانة; لأنه استسحر عليه الصلاة والسلام.

قوله تعالى: أإذا متنا . وقرأ بضم الميم أبو جعفر ، وابن أبي إسحق، وعاصم ، وأبو عمرو ، والعامة، وكسرها الحسن، والأعرج ، وشيبة ، ونافع . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ونافع : "أو آباؤنا" بسكون الواو، وهي التي للقسمة أو التخيير، وقرأ الجمهور بفتحها، وهي واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام.

ثم أمره تعالى أن يجيب تقريرهم بـ"نعم" ويزيدهم في الجواب أنهم في البعث - في صغار وذلة، و"الداخر": الصاغر الذليل، وقد تقدم غير مرة ذكر القراءات في الاستفهامين.

التالي السابق


الخدمات العلمية