تفسير سورة الليل
وهي مكية في قول الجمهور، وقال المهدوي وقيل هي مدنية وقيل فيها مدني وعددها عشرون آية بإجماع.
قوله عز وجل:
والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى
أقسم الله بالليل إذا غشى الأرض وجميع ما فيها، وبالنهار إذا تجلى أي ظهر وضوى الآفاق، ومنه قول الشاعر:
تجلى السرى من وجهه عن صبيحة على السير مشراق كريم شجونها
وقوله تعالى: وما خلق الذكر والأنثى يحتمل أن تكون "ما" بمعنى "الذي" كما قالت العرب: "سبحان ما سبح الرعد بحمده"، وقال وأهل أبو عمرو مكة: يقولون للرعد: [ ص: 633 ] "سبحان ما سبحت له"، ويحتمل أن تكون "ما" مصدرية، وهو مذهب . وقرأ جمهور الصحابة: "وما خلق الذكر"، وقرأ الزجاج ، علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم- وأبو الدرداء ، وأصحاب وعلقمة : "والذكر والأنثى"، وسقط عندهم "وما خلق"، وذكر عبد الله أن من السلف من قرأ "وما خلق الذكر والأنثى" بخفض "الذكر" على البدل من "ما" على أن التقدير: وما خلق الله وقراءة ثعلب رضي الله عنه : "ومن ذكر" تشهد لهذه، وقال علي المراد هنا بالذكر والأنثى الحسن: آدم وحواء عليهما السلام، وقال غيره: هو عام.
و"السعي": العمل، فأخبر تعالى مقسما أن أعمال العباد شتى، أي مفترقة جدا، بعضها في رضى الله تعالى وبعضها في سخطه. ثم قسم تعالى الساعين، فذكر أن من أعطى -وظاهر ذلك إعطاء المال، وهي أيضا تتناول إعطاء الحق في كل شيء، قول أو فعل، وكذلك البخل المذكور بعد، يكون بالإيمان وغيره من الأقوال التي حق الشريعة أن لا يبخل بها.
ويروى أن هذه الآية نزلت في رضي الله عنه، وذلك أنه كان يعتق ضعفة العبيد الذين أسلموا، وكان ينفق في رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، وكان الكفار بضد [ ص: 634 ] ذلك، وهذا قول من قال إن السورة كلها مكية، قال أبي بكر الصديق : هذه السورة في عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أبي بكر الصديق وأبي سفيان بن حرب ، وقال : مر مقاتل رضي الله عنه على أبو بكر وهو يعذب أبي سفيان ، فاشتراه منه، وقال بلالا : نزلت هذه الآية بسبب السدي رضي الله عنه، وذلك أبي الدحداح الأنصاري أبا الدحداح ، فذهب إليه واشترى منه النخلة بحائط له، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا أشتري النخلة في الجنة بهذه، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على الحائط الذي أعطى ، وقد تعلقت أقناؤه ويقول: "وكم قنو تعلق أبو الدحداح لأبي الدحداح في الجنة، وفي أن نخلة لبعض المنافقين كانت مطلة على دار امرأة من المسلمين لها أيتام، فكان الثمر يسقط عليهم فيأكلونه فمنعهم المنافق من ذلك، واشتد عليهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعنيها بنخلة في الجنة، فقال: لا أفعل، فبلغ ذلك أن هذا اللفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في الأقناء التي كان البخاري يعلقها في المسجد صدقة، وهذا كله قول من يقول: بعض السورة مدني. أبو الدحداح
واختلف الناس في "الحسنى" في هذه السورة- فقال وغيره: هي لا إله إلا الله، وقال أبو عبد الرحمن السلمي ، ابن عباس ، وجماعة: هي الخلف الذي وعد الله تعالى به، وذلك نص في حديث الملكين، إذ يقول أحدهما: وعكرمة وقال اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا. ، مجاهد ، وجماعة: [ ص: 635 ] الحسنى : الجنة، وقال كثير من المتأولين: الحسنى: الأجر والثواب مجملا. والحسن
وقوله تعالى: فسنيسره لليسرى معناه: سيظهر تيسيرنا بما يتدرج فيه من أعمال الخير، وختم تيسيره قد كان في علم الله تعالى أزلا، و"اليسرى" : الحال الحسنة المرضية في الدنيا والآخرة، و"العسرى" الحال السيئة في الدنيا والآخرة ولا بد ومن جعل "بخل" في المال خاصة جعل "استغنى" في المال أيضا لتعظم المذمة، ومن جعل "بخل" عاما في جميع ما ينبغي أن نبذل من قول وفعل قال: "استغنى" عن الله تعالى ورحمته بزعمه. ثم وقف تعالى على موضع غناء ماله عنه وقت ترديه، وهذا يدل على أن الإعطاء والبخل المذكورين إنما هما في المال.
واختلف الناس في معنى "تردى"- فقال قتادة وأبو صالح : معناه: تردى في جهنم، أي سقط من حافاتها، وقال : "تردى" معناه: هلك من الردى، وقال قوم: معناه: تردى بأكفانه من الرداء، ومنه قول مجاهد مالك بن الريب:
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على عيني فضل ردائيا
ومنه قول الآخر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا، أي تعريفهم بالسبل كلها، ومنحهم الإدراك، كما قال تعالى: وعلى الله قصد السبيل ، ثم كل أحد بعد ذلك يتكسب ما قدر له، وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى الإيمان، ولو كان كذلك لم يوجد كافر. ثم [ ص: 636 ] أخبر تعالى أن الآخرة والأولى أي الدارين.
وقوله تعالى: فأنذرتكم نارا تلظى إما مخاطبة منه سبحانه، وإما على معنى: قل لهم يا محمد، وقرأ جمهور السبعة: "تلظى" بتخفيف التاء، وقرأ عن البزي بشد التاء وإدغام الراء فيها، وقرأها كذلك ابن كثير ، وروي عنه أيضا "تتلظى" بتاءين، وكذلك قرأ عبيد بن عمير ابن الزبير وطلحة .
وقوله تعالى: لا يصلاها إلا الأشقى ، أي: لا يصلاها صلي خلود، ومن هنا ضلت المرجئة لأنها أخذت نفي الصلي مطلقا في قليله وكثيره. و"الأشقى" هنا-: الكافر; بدليل قوله تعالى: "الذي كذب"، والعرب تجعل "أفعل" في موضع "فاعل" مبالغة، كما قال طرفة:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
[ ص: 637 ] ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بـ "الأتقى" إلى آخر السورة رضي الله عنه، ثم هي تتناول كل من دخل في هذه الصفات. وقوله تعالى: "يتزكى" معناه: يتطهر ويتنمى، وظاهر هذا الإتيان أنه في المندوبات، وقوله تعالى: أبو بكر الصديق وما لأحد عنده الآية...معناه: وليس إعطاؤه ليجزي نعما قد أنزلت إليه، بل هو مبتدئ ابتغاء وجه الله تعالى.
وروي في سبب هذا أن قريشا قالوا -لما أعتق رضي الله عنه أبو بكر - كانت بلالا يد عنده، وذهب لبلال إلى أن المعنى: وليس يعطي ليثاب نعما يجزي بها يوما وينتظر ثوابها، وحوم في هذا المعنى وحلق بتطويل غير مغن، ويتجه المعنى الذي أراد بأيسر من قوله، وذلك أن التقدير: وما لأحد عنده إعطاء ليقع عليه من ذلك الأحد جزاء بعد، هو لمجرد ثواب الله تعالى وجزائه. الطبري
وقوله تعالى: "إلا ابتغاء" نصب بالاستثناء المنقطع، وفيه نظر، والابتغاء: الطلب، ثم وعده تعالى بالرضا في الآخرة، وهذه عدة رضي الله عنه. وقرأ "يرضى" بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وهذه الآية تشبه الرضا في قوله تعالى: لأبي بكر ارجعي إلى ربك راضية مرضية الآية.
كمل تفسير سورة [الليل] والحمد لله رب العالمين.