تفسير سورة العاديات
وهي مكية في قول جماعة من أهل العلم، وقال المهدوي عن : هي مدنية. أنس بن مالك
قوله عز وجل:
والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير
اختلف الناس في المراد بالعاديات، فقال ، ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد : أراد الخيل لأنها تعدو بالفرسان وتضبح بأصواتها، قال بعضهم: وسببها وعكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا إلى بني كنانة سرية فأبطأ أمرها عليه حتى أرجف بعض المنافقين، فنزلت الآية معلمة أن خيله عليه الصلاة والسلام قد فعلت جميع ما في الآيات. وقال آخرون: القسم هو بالخيل جملة لأنها تعدو ضابحة قديما وحديثا، وهي حاصرة البلاد وهادمة الممالك وفي نواصيها الخير إلى يوم القيامة. وقال رضي الله عنه، علي بن أبي طالب ، وابن مسعود وإبراهيم، : العاديات في هذه الآية الإبل لأنها تضبح في عدوها، وقال وعبيد بن عمير والقسم بالإبل العاديات من علي: عرفة ومن مزدلفة إذا دفع الحاج، وبإبل غزوة بدر، فإنه لم يكن في الغزوة غير فرسين، فرس وفرس المقداد . الزبير
و"الضبح" تصويت جهير عند العدو الشديد، ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح، بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح، وحكي عن رضي الله عنهما ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب، وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس ، [ ص: 673 ] وذلك أن الإبل تضبح، والأسود من الحيات، والبوم والصدى والأرنب والثعلب والفرس، هذه كلها قد استعملت العرب لها الضبح، وأنشد ابن عباس في صفة قوس: أبو حنيفة
حنانة من نشم أو تألب تضبح في الكف ضباح الثعلب
والظاهر في الآية أن القسم بالخيل أو بالإبل أو بهما.
قوله تعالى: "فالموريات قدحا"، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: هي الإبل، وذلك أنها في عدوها ترجم الحصى بالحصى فتتطاير منه النار، فذلك القدح، وقال وابن مسعود رضي الله عنهما: هي الخيل، وذلك بحوافرها في الحجارة، وذلك معروف، وقال ابن عباس : الموريات قدحا هي الألسن، فهذا على الاستعارة، أي أنها ببيانها تقدح الحجج وتظهرها، وقال عكرمة : الموريات قدحا يراد به مكر الرجال، وقال مجاهد : الموريات الخيل تشعل الحرب، فهي أيضا على الاستعارة البينة، وقال قتادة أيضا وجماعة من العلماء: الكلام عام يدخل في القسم كل من يظهر بقدحه نارا، وذلك شائع في الأمم طول الدهر، وهو نفع عظيم من الله تعالى وقد وقف عليه في قوله سبحانه: ابن عباس أفرأيتم النار التي تورون ، ومعناه: تظهرون بالقدح، قال : عدي بن زيد
فقدحنا زنادنا وورينا فوق جرثومة من الأرض نارا
[ ص: 674 ] قوله تعالى: "فالمغيرات صبحا"، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: هي الإبل من وابن مسعود مزدلفة إلى منى، أو في بدر، والعرب تقول: "أغار" إذا عدا حربا، ونحوه، وقال وجماعة كثيرة: هي الخيل، واللفظة من الغارة في سبيل الله وغير ذلك من سير الأمم، وعرف الغارات أنها مع الصباح لأنها تسري ليلة الغارة. ابن عباس
و"النقع": الغبار الساطع المثار. وقرأ أبو حيوة: "فأثرن" بشد الثاء، والضمير في "به" ظاهر أنه للصبح المذكور، ويحتمل أن يكون للمكان والموضع الذي يقتضيه المعنى وإن كان لم يجر له ذكر، ولهذا أمثلة كثيرة، ومشهورة "إثارة النقع" هو للخيل، ومنه قول الشاعر:
يخرجن من فرجات النقع دامية كأن آذانها أطراف أقلام
وقال رضي الله عنه: هو هنا للإبل تثير النقع بأخفافها. علي بن أبي طالب
وقوله تعالى: فوسطن به جمعا ، قال علي بن أبى طالب رضي الله عنه رضي الله عنه: هي الإبل، و"جمع" هي وابن مسعود المزدلفة، وقال وجماعة: هي الخيل، والمراد جمع من الناس هم المغزوون، وقرأ ابن عباس علي وابن مسعود : "فوسطن" بشد السين، وقال وقتادة بشر بن أبي خازم:
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب تحت العجاجة في الغبار الأقتم
[ ص: 675 ] وذكر عن الطبري أنه كان يكره تفسير هذه الألفاظ ويقول: هو قسم أقسم الله تعالى به، وجمهور العلماء والأمة مفسرون لها كما ذكرنا. زيد بن أسلم
والقسم واقع على قوله تعالى: إن الإنسان لربه لكنود ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: وقد يكون في المؤمنين الكفور بالنعمة، فتقدير الآية: إن الإنسان لنعمة ربه لكنود، و"أرض كنود": لا تنبت شيئا، وقال "أتدرون ما الكنود"؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: "الكنود الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده"، الكنود: اللائم لربه سبحانه، الذي يعد السيئات وينسى الحسنات، والكنود: العاصي بلغة الحسن بن أبي الحسن: كندة، ويقال للخيل: كنود، وقال أبو زبيد:
إن تفتني فلم أطب عنك نفسا غير أني أمنى بدهر كنود
وقال الفضيل : الكنود هو الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة، ويعامل الله على عقد عوض.
وقوله تعالى: وإنه على ذلك لشهيد يحتمل الضمير أن يعود على الله تعالى، وقاله ، أي: وربه شاهد عليه، ونفس هذا الخبر يقتضي الشهادة بذلك، ويحتمل أن يعود على الإنسان أي: أفعاله وأقواله وحاله المعلومة من هذه الأخلاق تشهد عليه، فهو شاهد على نفسه بذلك، وهذا قول قتادة الحسن . ومجاهد
والضمير في قوله تعالى: وإنه لحب الخير لشديد ، عائد على الإنسان لا غير والمعنى: من أجل حب الخير لشديد، أي: بخيل بالمال ضابط له، ومنه قول الشاعر : [ ص: 676 ]
أرى الموت يعتام الكرام ويصطف عقيلة مال الفاحش المتشدد
و"الخير" المال على عرف ذلك في كتاب الله تعالى، قال : الخير حيث وقع في القرآن فهو المال. ويحتمل أن يريد هنا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاه عند الملوك ونحوه; لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك، فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجو له الفوز. عكرمة
وقوله تعالى: "أفلا يعلم" توقيف على المآل والمصير، أي: أفلا يعلم مآله ومصيره فيستعد له؟ و"بعثرة ما في القبور"، نقضه مما يستره والبحث عنه، وهى عبارة عن البعث، وفي مصحف : "بحث ما في القبور"، وفي حرف ابن مسعود "وبحثرت القبور". و"تحصيل ما في الصدور": تمييزه وكشفه ليقع الجزاء عليه من إيمان وكفر ونية، ويفسره قول النبي عليه الصلاة والسلام: أبي وقرأ "فيبعثون على نياتهم"، ، يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم بفتح الحاء والصاد. ثم استؤنف الخبر الصادق الجزم بأن الله تعالى خبير بهم يومئذ، وهو تعالى خبير دائما، لكن خصص يومئذ لأنه يوم المجازاة، فإليه طمحت النفوس، وفى هذا وعيد مصرح.
كمل تفسير "العاديات" والحمد لله رب العالمين.