الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 467 ] قوله عز وجل:

ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم

استوى إلى السماء معناه: بقدرته واختراعه، أي: إلى خلق السماء وإيجادها، وقوله تعالى: وهي دخان روي أنها كانت جسما رخوا كالدخان أو البخار، وروي أنه مما أمره الله أن يصعد من الماء، وهنا لفظ متروك ويدل عليه الظاهر، وتقديره: فأوجدها وأتقنها وأكمل أمرها، وحينئذ قيل لها وللأرض: ائتيا طوعا أو كرها . وقرأ الجمهور: "ائتيا"، من أتى يأتي، قالتا أتينا طائعين على وزن فعلنا، وذلك بمعنى: ائتيا أوامري وإرادتي فيكما، وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد : "آتيا"، من آتى يؤتى، قالتا أتينا طائعين على وزن أفعلنا، وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرهما وما قدره الله من أعمالها.

وقوله تعالي: أو كرها فيه محذوف ومقتضب، والتقدير: ائتيا طوعا وإلا أتيتما كرها، وقوله تعالى: "قالتا" أراد الفرقتين المذكورتين، وجعل تعالى السماوات سماء والأرضين أرضا، ونحو هذا قول الشاعر:


ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا؟



[ ص: 468 ] جعلها فرقتين وعبر عنهما بتباينتا. وقوله: "طائعين"، لما كان ممن يقول - وهي حال يعقل - جرى الضمير في "طائعين" ذلك المجرى، وهذا كقوله تعالى: رأيتهم لي ساجدين .

واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض، فقالت فرقة: نطقتا حقيقة، وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكا يقتضي نطقها، وقالت فرقة: هذا مجاز، وإنما المعنى أنهما ظهر منها من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة قول: أتينا طائعين . والقول الأول أحسن; لأنه لا شيء يدفعه، ولأن العبرة به أتم، والقدرة فيه أظهر.

وقوله تعالى: فقضاهن معناه: فأوجدهن، ومنه قول أبي ذؤيب :


وعليهما مسرودتان قضاهما ...     داود أو صنع السوابغ تبع



[ ص: 469 ] وقوله تعالى: وأوحى في كل سماء أمرها قال مجاهد ، وقتادة : أوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة، وإليها هي في نفسها ما شاء الله تعالى من الأمور التي بها قوامها وصلاحها، قال السدي ، وقتادة : من الأمور التي هي لغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوها، وأضاف الله تعالى الأمر إليها من حيث هو فيها.

ثم أخبر الله تعالى أن الكواكب زين بها السماء الدنيا، وذلك ظاهر اللفظ وهو بحسب ما يقتضيه حس البصر، وقوله تعالى: "وحفظا" منصوب بإضمار فعل، أي: وحفظناها حفظا. وقوله تعالى: "ذلك" إشارة إلى جميع ما ذكر، أي: أوجده بقدرته وعزته، وأحكمه بعلمه.

التالي السابق


الخدمات العلمية