فأما فعلى قول ما اكتسب في حال ردته رحمه الله تعالى هو فيء يوضع في بيت المال أبي حنيفة وعندهما هو ميراث لورثته المسلمين ; لأن كسبه يوقف على أن يسلم له بالإسلام فيخلفه وارثه فيه بعد موته ككسب الإسلام ، وما ذكرنا من المعاني بجمع الكسبين ، وليس في الردة أكثر من أنه صار به مشرفا على الهلاك فيكون كالمريض ، والمكتسب في مرض الموت كالمكتسب في الصحة في حكم الإرث رحمه الله تعالى يقول : الوراثة خلافة في الملك ، والردة تنافي بقاء الملك فتنافي ابتداء الملك بطريق الأولى ، فما اكتسب في إسلامه كان مملوكا له فيخلفه وارثه فيه إذا تم انقطاع حقه عنه ، وكسب الردة لم يكن مملوكا له لقيام [ ص: 102 ] المنافي عند الاكتساب ، وإنما كان له حق أن يتملك أن لو أسلم ، والوارث لا يخلفه في مثل هذا الحق فبقي هذا مالا ضائعا بعد موته يوضع في بيت المال ، والأصح أن نقول : إسناد التوريث إلى أول الردة في كسب الإسلام ممكن ; لأن السبب يعمل في المحل ، والمحل كان موجودا عند أول الردة ، فأما إسناد التوريث في كسب الردة غير ممكن لانعدام المحل عند السبب في هذا الكسب ، فلو ثبت فيه حكم التوريث ثبت مقصورا على الحال ، وهو كافر بعد الاكتساب ، والمسلم لا يرث الكافر فيبقى موقوفا على أن يسلم له بالإسلام . وأبو حنيفة
فإذا زال ذلك بأن مات أو قتل فهذا كسب حربي لا أمان له فيكون فيئا للمسلمين يوضع في بيت مالهم ، ثم اختلفت الروايات عن رحمه الله تعالى فيمن يرث المرتد فروى أبي حنيفة الحسن عن رحمهما الله تعالى أنه من كان وارثا له وقت ردته ، وبقي إلى موت المرتد ، فإنه يرثه ، ومن حدث له صفة الوراثة بعد ذلك لا يرثه حتى لو أسلم بعض قرابته بعد ردته ، أو ولد له من علوق حادث بعد ردته ، فإنه لا يرثه على هذه الرواية ; لأن سبب التوريث الردة فمن لم يكن موجودا عند ذلك السبب لم ينعقد له سبب الاستحقاق ، ثم تمام الاستحقاق بالموت ، فإنما يتم في حق من انعقد له السبب لا في حق من لم ينعقد له السبب ، ثم في حق من انعقد له السبب يشترط بقاؤه إلى وقت تمام الاستحقاق ، فإذا مات قبل ذلك يبطل السبب في حقه كما في بيع الموقوف يتم الملك عند الإجازة من وقت السبب ، ولكن بشرط قيام المعقود عليه عند الإجازة حتى إذا هلك قبل ذلك بطل السبب ، وفي رواية أبي حنيفة أبي يوسف عن رحمهما الله تعالى يعتبر وجود الوارث ، وقت الردة ثم لا يبطل استحقاقه بموته قبل موت المرتد ; لأن الردة في حكم التوريث كالموت ، ومن مات من الورثة بعد موت المورث قبل قسمة ميراثه لا يبطل استحقاقه ، ولكن يخلفه ، وارثه فيه فهذا مثله ، وأما رواية أبي حنيفة محمد عن رحمهما الله تعالى ، وهو الأصح أنه يعتبر من يكون وارثا له حين مات أو قتل ، سواء كان موجودا عند الردة أو حدث بعده ; لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه يجعل كالموجود عند ابتداء السبب . أبي حنيفة
ألا ترى أن الزيادة التي تحدث من المبيع قبل القبض تجعل كالموجود عند ابتداء العقد في أنه يصير معقودا عليه بالقبض ، ويكون له حصة من الثمن فههنا أيضا من يحدث قبل انعقاد السبب يجعل كالموجود عند ابتداء السبب ، ولو تصور بعد الموت الحقيقي ، ولد له من علوق حادث لكنا نجعله كذلك أيضا إلا أن ذلك لا يتصور ، فأما بعد الهلاك بالحكم بالردة [ ص: 103 ] يتصور فيجعل الحادث كالموجود عند ابتداء السبب ، وكذلك إن لحق بدار الحرب قسم الإمام ماله بين ورثته ، وكان لحاقه بدار الحرب بمنزلة موته ، وعند رحمه الله تعالى يبقى ماله بعد لحاقه موقوفا كما كان قبل لحاقه ; لأن ذهابه إلى دار الحرب نوع غيبة فلا يتغير به حكم ماله ، كما لو كان مترددا في دار الإسلام ، ولكنا نقول : إنه صار حربيا حقيقة وحكما ; لأنه قد أبطل حياة نفسه بدار الحرب حين عاد إلى دار الحرب حربا للمسلمين ، والحربي في دار الحرب كالميت في حق المسلمين قال الله تعالى : { الشافعي أومن كان ميتا فأحييناه } ، وقد قررنا هذا في النكاح في مسألة تباين الدارين ، ولأنه قد خرج من يد الإمام حقيقة وحكما ، ولو كان في يده لموته حقيقة بأن يقتله ويقسم ماله ، فإذا عجز عن ذلك بخروجه عن يده موته حكما فيقسم ماله بين ورثته ، وحكم بعتق أمهات أولاده ومدبريه وبحلول آجاله ثم قال أبو يوسف يعتبر من يكون وارثا له وقت قضاء القاضي بلحاقه ، وعند وقت لحاقه ، وهذا لأن محمد عندهما ملكه لا يزول بالردة ، ولهذا ينفذ تصرف المرتد عندهما على ما نبينه ، فإنما زوال ملكه بسبب الردة عند لحاقه فيعتبر وارثه عند ذلك ، ولحاقه موت حكمي فهو كالموت الحقيقي بالقتل ، ولكن أبو يوسف يقول : اللحاق في الحقيقة غيبة ، وإنما يصير موتا حكما بقضاء القاضي فيعتبر من يكون وارثا له عند القضاء باللحاق في استحقاق ماله ، وكذلك ترث منه امرأته إن كانت في العدة ; لأن النكاح بينهما ، وإن ارتفع بنفس الردة لكنه فار عن ميراثها .
وامرأة الفار ترث إذا كانت في العدة عند موته ، وعلى رواية أبي يوسف ترث ، وإن كانت منقضية العدة عند رحمه الله تعالى ; لأن السبب التوريث كان موجودا في حقها عند ردته ، وعلى تلك الرواية إنما يعتبر قيام السبب عند أول الردة ، وتبطل وصاياه ; لأن تنفيذ الوصايا لحق الموصي ، ولم يبق له حق بعد ما قتل على الردة أو لحق بدار الحرب ، وهذا بخلاف التدبير ، فإن حق العبد في العتق بالتدبير قد ثبت للمدبر فيكون عتقه كعتق أم الولد أو حقه كحق أصحاب الديون ، وفي الكتاب يقول : ردته كرجوعه عن الوصية ; لأنه بالردة يبطل حقه ، وتنفيذ الوصية كان لحقه فرجوعه يعمل في إبطال وصاياه ، ولا يعمل في إبطال تدبيره فكذلك ردته ، وهو لا يفعل شيئا من ذلك ما دام المرتد مقيما في دار الإسلام ; لأنه في يده حقيقة وحكما فبموته بالقتل حقيقة إن لم يسلم أولا ثم يقسم ماله ، وإن فعل ذلك بعد لحاقه بدار الحرب ثم رجع تائبا قد مضى جميع ما فعله الإمام غير أنه إذا وجد شيئا من ملكه بعينه في يد وارثه أخذه [ ص: 104 ] منه ; لأن الوراثة خلافة ، والخلف يسقط اعتباره إذا ظهر الأصل ، ولما جاء تائبا فقد صار حيا حكما ، وإنما كانت خلافة الوارث إياه في هذا الملك كموته حكما ، فإذا انعدم ذلك ظهر حكم الأصل ، ولهذا قلنا : لو كان الوارث كاتب عبدا يعاد إليه ذلك العبد مكاتبا ; لأن الحكم لا يكون منتقلا من الخلف إلى الأصل ، وتأثير الكتابة في منع النقل ، ولكن ينعدم الخلف بظهور الأصل فيكون الملك لصاحب الأصل بطريق البقاء ، ولا يعاد إليه شيء مما باعه وارثه ; لأن الأصل والخلف في الحكم فلا بد من قيامه عند ظهور الأصل ليكون عاملا ، وما تصرف الوارث من بيع أو غيره فهو نافذ منه لمصادفته ملكه ، ولا ضمان عليه في شيء مما أتلفه ; لأن الملك كان خالصا له ، وفعله فيما خلص حقا له لا يكون سبب الضمان فلو لم يفعل الإمام شيئا من ذلك حتى رجع تائبا فجميع ذلك له كما كان قبل ردته ; لأن اللحاق قبل أن يتصل به القضاء بمنزلة الغيبة فهو والمتردد في دار الإسلام في الحكم سواء . أبي حنيفة