الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    ( فصل )

                    [ ص: 51 ] ومن ذلك : أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد زنت . فسألها عن ذلك ؟ فقالت : نعم يا أمير المؤمنين ، وأعادت ذلك وأيدته . فقال علي : إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام . فدرأ عنها الحد . وهذا من دقيق الفراسة .

                    20 - ( فصل )

                    ومن قضايا علي رضي الله عنه : أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين متلطخة بدم ، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه . فسأله ؟ فقال : أنا قتلته ، قال : اذهبوا به فاقتلوه . فلما ذهب به أقبل رجل مسرعا ، فقال : يا قوم ، لا تعجلوا . ردوه إلى علي ، فردوه ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، ما هذا صاحبه ، أنا قتلته . فقال علي للأول : ما حملك على أن قلت : أنا قاتله ، ولم تقتله ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، وما أستطيع أن أصنع ؟ وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه ، وأنا واقف ، وفي يدي سكين ، وفيها أثر الدم ، وقد أخذت في خربة ؟ فخفت ألا يقبل مني ، وأن يكون قسامة ، فاعترفت بما لم أصنع ، واحتسبت نفسي عند الله . فقال علي : بئسما صنعت . فكيف كان حديثك ؟ قال : إني رجل قصاب ، خرجت إلى حانوتي في الغلس ، فذبحت بقرة وسلختها . فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي أخذني البول . فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها ، فقضيت حاجتي ، وعدت أريد حانوتي ، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره ، فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي ، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي فأخذوني ، فقال الناس : هذا قتل هذا ، ما له قاتل سواه . فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي ، فاعترفت بما لم أجنه ، فقال علي للمقر الثاني : فأنت كيف كانت قصتك ؟ فقال أغواني إبليس ، فقتلت الرجل طمعا في ماله ، ثم سمعت حس العسس ، فخرجت من الخربة ، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف ، فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس ، فأخذوه وأتوك به . فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا ، فاعترفت بالحق . فقال للحسن : ما الحكم في ، هذا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا ، وقد قال الله تعالى : { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } ، فخلى علي عنهما ، وأخرج دية القتيل من بيت المال .

                    وهذا - إن وقع صلحا برضا الأولياء - فلا إشكال ، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقوال الفقهاء : أن القصاص لا يسقط بذلك . لأن الجاني قد اعترف بما يوجبه ، ولم يوجد ما يسقطه ، فيتعين استيفاؤه . [ ص: 52 ] وبعد : فلحكم أمير المؤمنين وجه قوي .

                    وقد وقع نظير هذه القصة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنها ليست في القتل . قال النسائي : حدثنا محمد بن يحيى بن كثير الحراني ، حدثنا عمر بن حماد بن طلحة ، حدثنا أسباط ابن نصر عن سماك ، عن علقمة بن وائل ، عن أبيه { أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح - وهي تعمد إلى المسجد - بمكروه على نفسها ، فاستغاثت برجل مر عليها ، وفر صاحبها . ثم مر عليها ذوو عدد . فاستغاثت بهم ، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به ، فأخذوه . وسبقهم الآخر ، فجاءوا به يقودونه إليها ، فقال : أنا الذي أغثتك ، وقد ذهب الآخر . فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه وقع عليها . وأخبر القوم : أنهم أدركوه يشتد ، فقال : إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني ، فقالت : كذب ، هو الذي وقع علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلقوا به فارجموه . فقام رجل ، فقال : لا ترجموه ، وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل ، واعترف . فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي وقع عليها ، والذي أغاثها ، والمرأة - فقال : أما أنت فقد غفر لك . وقال للذي أغاثها قولا حسنا . فقال عمر رضي الله عنه : ارجم الذي اعترف بالزنا . فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لا إنه قد تاب } .

                    ورواه الإمام أحمد في مسنده " عن محمد بن عبد الله بن الزبير حدثنا إسرائيل عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه - فذكره . وفيه : { فقالوا يا رسول الله ، ارجمه فقال : لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل الله منهم } .

                    وقال أبو داود : ( ( باب في صاحب الحد يجيء فيقر " حدثنا محمد بن يحيى بن فارس عن الفريابي عن إسرائيل عن سماك - فذكره بنحوه - وفيه : { ألا ترجمه ؟ قال : لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبلت منهم } .

                    وقال الترمذي : " باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا " حدثنا علي بن حجر ، أنبأنا معتمر بن سليمان الرقي عن الحجاج بن أرطاة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال : { استكرهت امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد ، وأقامه على الذي أصابها } . ولم يذكر أنه جعل لها مهرا .

                    قال الترمذي : هذا حديث غريب . ليس إسناده بمتصل .

                    وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه . وسمعت محمدا يقول : عبد الجبار بن وائل بن حجر لم يسمع من أبيه ولا أدركه ، يقال : إنه ولد بعد موت أبيه بأشهر . والعمل على هذا عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم : [ ص: 53 ] أن ليس على المستكره حد .

                    ثم ساق حديث علقمة بن وائل عن أبيه من طريق محمد بن يحيى النيسابوري عن الفريابي عن سماك عنه : ولفظه : { أن امرأة خرجت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد الصلاة فتلقاها رجل فتجللها ، فقضى حاجته منها . فصاحت ، فانطلق . ومر عليها رجل ، فقالت : إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا . ومرت بعصابة من المهاجرين ، فقالت : إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا ، فانطلقوا فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها . فأتوها به ، فقالت : نعم هو هذا ، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمر به ليرجم قام صاحبها الذي وقع عليها ، فقال ، يا رسول الله : أنا صاحبها . فقال لها : اذهبي فقد غفر الله لك .

                    وقال للرجل قولا حسنا : وقال للذي وقع عليها : ارجموه . وقال : لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل الله منهم
                    } . وقال الترمذي : هذا حديث غريب . وفي نسخة صحيح وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه . وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل . وعبد الجبار لم يسمع من أبيه .

                    قلت : هذا الحديث إسناده على شرط مسلم ، ولعله تركه لهذا الاضطراب الذي وقع في متنه . والحديث يدور على سماك .

                    وقد اختلفت الرواية في رجم المعترف ، فقال أسباط بن نصر عن سماك : " فأبى أن يرجمه " ورواية أحمد وأبي داود ظاهرة في ذلك . ورواية الترمذي عن محمد بن يحيى صريحة في أنه رجمه . وهذا الاضطراب : إما من سماك - وهو الظاهر - وإما ممن هو دونه .

                    والأشبه : أنه لم يرجمه ، كما رواه أحمد والنسائي وأبو داود . ولم يذكروا غير ذلك ، ورواته حفظوا : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل رجمه فأبى ، وقال : لا " والذي قال : " إنه أمر برجمه " إما أن يكون جرى على المعتاد ، وإما أن يكون اشتبه عليه أمره برجم الذي جاءوا به أولا ، فوهم ، وقال : إنه أمر برجم المعترف . وأيضا فالذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزنا مضبوطون معدودون ، وقصصهم محفوظة معروفة . وهم ستة نفر : الغامدية ، وماعز ، وصاحبة العسيف ، واليهوديان .

                    والظاهر : أن راوي الرجم في هذه القصة استبعد أن يكون قد اعترف بالزنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجمه وعلم أن من هديه : رجم الزاني . فقال : " وأمر برجمه " ، فإن قيل : فحديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه ، الظاهر أنه في هذه القصة ، وقد ذكر " أنه أقام الحد على الذي أصابها " . [ ص: 54 ]

                    قيل : لا يدل لفظ الحديث على أن القصة واحدة ، وإن دل ، فقد قال البخاري : لم يسمعه حجاج من عبد الجبار ، ولا سمعه عبد الجبار من أبيه . حكاه البيهقي عنه ، على أن في قول البخاري : " إن عبد الجبار ولد بعد موت أبيه بأشهر " نظرا . فإن مسلما روى في صحيحه " عن عبد الجبار قال : " كنت غلاما لا أعقل صلاة أبي . .. " الحديث ، وليس في ترك رجمه - مع الاعتراف - ما يخالف أصول الشرع ، فإنه قد تاب بنص النبي صلى الله عليه وسلم .

                    ومن تاب من حد قبل القدرة عليه سقط عنه في أصح القولين ، وقد أجمع عليه الناس في المحارب ، وهو تنبيه على من دونه ، وقد { قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لما فر ماعز من بين أيديهم : هلا تركتموه يتوب ، فيتوب الله عليه ؟ } .

                    فإن قيل : فكيف تصنعون بأمره برجم المتهم الذي ظهرت براءته ، ولم يقر ، ولم تقم عليه بينة ، بل بمجرد إقرار المرأة عليه ؟

                    قيل : هذا - لعمر الله - هو الذي يحتاج إلى جواب شاف ، فإن الرجل لم يقر ، بل قال : " أنا الذي أغثتها " .

                    فيقال - والله أعلم - : إن هذا مثل إقامة الحد باللوث الظاهر القوي ، فإنه أدرك وهو يشتد هاربا بين أيدي القوم ; واعترف بأنه كان عند المرأة ، وادعى أنه كان مغيثا لها ، وقالت المرأة : هو هذا ، وهذا لوث ظاهر .

                    وقد أقام الصحابة حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه ; وهو الحمل ، والرائحة وجوز النبي صلى الله عليه وسلم لأولياء القتيل أن يقسموا على عين القاتل - وإن لم يروه - للوث ، ولم يدفعه إليهم . فلما انكشف الأمر بخلاف ذلك تعين الرجوع إليه ، كما لو شهد عليه أربعة : أنه زنى بامرأة ، فحكم برجمه ، فإذا هي عذراء ; أو ظهر كذبهم ، فإن الحد يدرأ عنه ، ولو حكم به ، فهذا ما ظهر في هذا الحديث الذي هو من مشكلات الأحاديث ، والله أعلم .

                    وقرأت في كتاب أقضية علي " رضي الله عنه - بغير إسناد -

                    " أن امرأة رفعت إلى علي ، [ ص: 55 ] وشهد عليها : أنها قد بغت ، وكان من قصتها أنها كانت يتيمة عند رجل ، وكان للرجل امرأة ; وكان كثير الغيبة عن أهله . فشبت اليتيمة ، فخافت المرأة أن يتزوجها زوجها ; فدعت نسوة حتى أمسكنها . فأخذت عذرتها بأصبعها ; فلما قدم زوجها من غيبته رمتها المرأة بالفاحشة ، وأقامت البينة من جاراتها اللواتي ساعدنها على ذلك . فسأل المرأة : ألك شهود ؟ قالت : نعم . هؤلاء جاراتي يشهدن بما أقول . فأحضرهن علي ، وأحضر السيف ، وطرحه بين يديه ، وفرق بينهن . فأدخل كل امرأة بيتا ; فدعا امرأة الرجل ، فأدارها بكل وجه ; فلم تزل عن قولها . فردها إلى البيت الذي كانت فيه . ودعا بإحدى الشهود ، وجثا على ركبتيه .

                    وقال : قد قالت المرأة ما قالت ، ورجعت إلى الحق ، وأعطيتها الأمان ; وإن لم تصدقيني لأفعلن ، ولأفعلن . فقالت : لا والله ، ما فعلت ، إلا أنها رأت جمالا وهيبة ، فخافت فساد زوجها ; فدعتنا وأمسكناها لها ، حتى افتضتها بأصبعها ; قال علي : الله أكبر ; أنا أول من فرق بين الشاهدين . فألزم المرأة حد القذف ; وألزم النسوة جميعا العقر ، وأمر الرجل أن يطلق المرأة ، وزوجه اليتيمة ، وساق إليها المهر من عنده . ثم حدثهم : أن دانيال كان يتيما ، لا أب له ولا أم ، وأن عجوزا من بني إسرائيل ضمته وكفلته ، وأن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان له قاضيان . وكانت امرأة مهيبة جميلة ، تأتي الملك فتناصحه وتقص عليه ، وأن القاضيين عشقاها . فراوداها عن نفسها فأبت ، فشهدا عليها عند الملك أنها بغت . فدخل الملك من ذلك أمر عظيم فاشتد غمه ، وكان بها معجبا . فقال لهما : إن قولكما مقبول ، وأجلها ثلاثة أيام ، ثم ترجمونها . ونادى في البلد : احضروا رجم فلانة ، فأكثر الناس في ذلك ، وقال الملك لثقته : هل عندك من حيلة ؟ فقال : ماذا عسى عندي ؟ - يعني وقد شهد عليها القاضيان - فخرج ذلك الرجل في اليوم الثالث ، فإذا هو بغلمان يلعبون ، وفيهم دانيال ، وهو لا يعرفه ، فقال دانيال : يا معشر الصبيان تعالوا حتى أكون أنا الملك ، وأنت يا فلان المرأة العابدة ، وفلان وفلان القاضيين الشاهدين عليها . ثم جمع ترابا وجعل سيفا من قصب ، وقال للصبيان : خذوا بيد هذا القاضي إلى مكان كذا وكذا ففعلوا ، ثم دعا الآخر ، فقال له : قل الحق ، فإن لم تفعل قتلتك ، بأي شيء تشهد ؟ - والوزير واقف ينظر ويسمع - فقال أشهد أنها بغت ، قال : متى ؟ قال : في يوم كذا وكذا . قال : مع من ؟ قال : مع فلان بن فلان . قال : في أي مكان ؟ قال في مكان كذا وكذا ، فقال : ردوه إلى مكانه ، وهاتوا الآخر . فردوه إلى مكانه ، وجاءوا بالآخر ، فقال : بأي شيء تشهد ؟ قال : بغت . قال : متى ؟ قال : يوم كذا وكذا ، قال : مع من ؟ قال : مع فلان بن فلان ، قال : [ ص: 56 ] وأين ؟ قال : في موضع كذا وكذا ، فخالف صاحبه ، فقال دانيال : الله أكبر ، شهدا عليها والله بالزور ، فاحضروا قتلهما . فذهب الثقة إلى الملك مبادرا ، فأخبره الخبر ، فبعث إلى القاضيين ، ففرق بينهما . وفعل بهما ما فعل دانيال . فاختلفا كما اختلف الغلامان . فنادى الملك في الناس : أن احضروا قتل القاضيين ، فقتلهما .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية