الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    133 - ( فصل )

                    قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن رجل قال : أول غلام لي يطلع فهو حر ، فطلع غلامان له : أو طلع عبيده كلهم ؟ قال : قد اختلفوا في هذا ، قلت : أخبرني ما تقول أنت فيه ؟ قال : يقرع بينهم ، فأيهم خرجت قرعته أعتق . [ ص: 267 ]

                    قال : وسألت أبا عبد الله عن رجل قال - وله أربع نسوة - أول امرأة تطلع فهي طالق ، فطلعن كلهن ؟ قال : قد اختلفوا في هذا أيضا ، قلت : أخبرني فيه بشيء ، فقال : قال بعضهم : يقسم بينهن تطليقة ، قلت : أخبرني فيه بقولك ، فقال : يقرع بينهن ، فأيتهن خرجت عليها القرعة طلقت . قلت : لفظ " الأول " يراد به ما يتقدم على غيره ، ويراد به ما لا يتقدم عليه غيره ، وعلى المعنى الأول : لا يكون أولا إلا إذا تبعه غيره وتأخر عنه ، وعلى المعنى الثاني : يكون أولا ، وإن لم يتأخر عنه غيره ، فيصح على هذا أن يقول : من لم يتزوج إلا امرأة واحدة ، أو لم يولد له إلا ولد واحد ، هذه أول امرأة تزوجتها ، وهذا أول مولود ولد لي . وعلى هذا إذا قال : أول مولود تلدينه فهو حر ، فولدت ولدا ، ثم لم تلد بعده شيئا ، عتق ذلك الولد ، ولو قال : أول مملوك أشتريه فهو حر : عتق العبد المشترى ، وإن لم يشتر بعده غيره ، وإذا قال : أول غلام يطلع لي فهو حر ، أو أول امرأة تطلع فهي طالق ، فطلع منهم جماعة ، فكل منهم صالح لأن يكون أول ، وليس اختصاص أحدهم بذلك أولى من الآخر ، فيخرج أحدهم بالقرعة فإنه لو طلع منهم واحد معين : لكان هو الحر والمطلقة ، فإذا طلع جماعة ، فالذي يستحق العتق والطلاق منهم واحد وهو غير معين ، فيخرج بالقرعة .

                    فإن قيل : إذا تساووا في الطلوع : لم يكن فيهم أول ، ولهذا يقال : لم يجئ أحدهم أول من الآخر ، فلم يوجد الشرط فلا يقع المعلق به ، وإن كان الجميع قد اشتركوا في الأولية : وجب أن يشتركوا في وقوع العتق والطلاق .

                    قيل : إن نوى وقوع العتق والطلاق - إذا اشتركوا في ذلك - وقع بالجميع وإنما كلامنا فيما إذا نوى وقوع العتق والطلاق في واحد موصوف بالأولية ، فإذا اشترك جماعة في الصفة : وجب إخراج أحدهم بالقرعة ، فإن النية تخصص العام وتقيد المطلق ، فغاية الأمر : أن يقال : قد اشترك جماعة في الشرط ، ولكنه خصص بنيته واحدا .

                    فإن قيل : فما تقولون فيما لو طلق ولم تكن له نية ؟ قيل : لو طلق ، فإنما يقع العتق والطلاق بواحد لا بالجميع ، لأنه قال : أول غلام يطلع ، وأول امرأة تطلع ، وهذا يقتضي أن يكون فردا من جملة ، لا مجموع الجملة ، فكأنه قال : غلام من غلماني ، وامرأة من نسائي ، يكون أول مستحق العتق والطلاق ، وكل واحد منهم قد اتصف بهذه الصفة ، وهو إنما أوقع ذلك في واحد : فيخرج بالقرعة .

                    ومن لا يقول بهذا ، فإما أن يقول : يعين بتعيينه ، وقد تقدم فساد ذلك ، وأن التعيين بما جعله [ ص: 268 ] الشارع طريقا للتعيين أولى من التعيين بالتشهي والاختيار . وإما أن يقال : يعتق الجميع ويطلق ، وهذا أيضا لا يصح ، فإنه إنما أوقع العتق والطلاق في واحد لا في الجميع ، وكلامه صريح في ذلك . وإما أن يقال : لا يعتق واحد ولا تطلق امرأة ، ولا يصح أيضا لوجود الوصف ، فإنه لو انفرد بالطلوع ، أو انفردت به لوقع المعلق به ، ومشاركة غيره لا تخرجه عن الاتصاف بالأولية ، فقد اشترك جماعة في الوصف ، والمراد واحد منهم ، فيخرج بالقرعة .

                    فإن قيل : فما تقولون فيما لو قال : أول ولد تلدينه فهو حر ، فولدت اثنين لا يدري أيهما هو الأول . قيل : يقرع بينهما ، فيما نص عليه في رواية ابن منصور ، قال : يقرع بينهما فمن أصابته القرعة عتق ، وهذا نظير أن يطلع أحدهما قبل الآخر ، ثم يشكل في مسألة التعليق بالطلوع .

                    فإن قيل : فلو ولدتهما معا ، بأن تضع مثل الكيس ، وفيه ولدان أو أكثر ؟ قيل يخرج أحدهما بالقرعة ، على قياس قوله في مسألة أول غلام يطلع لي فهو حر ، فطلعا معا .

                    قال في " المغني " : ويحتمل أن يعتقا جميعا ، لأن الأولية وجدت فيهما جميعا فثبتت الحرية فيهما ، كما لو قال في المسابقة : من سبق فله عشرة ، فسبق اثنان : اشتركا في العشرة .

                    وقال إبراهيم النخعي : يعتق أيهما شاء .

                    وقال أبو حنيفة : لا يعتق واحد منهما ، لأنه لا أول فيهما ، لأن كل واحد منهما مساو للآخر ، ومن شرط الأولية : سبق الأول ، قال : ولنا أن هذين لم يسبقهما غيرهما ، فكانا أولا كالواحد ، وليس من شرط سبق الأول : أن يأتي بعده ثان ، بدليل ما لو ملك واحدا ولم يملك بعده شيئا ، وإذا كانت الصفة موجودة فيهما فإما أن يعتقا جميعا ، أو يعتق أحدهما ، وتعينه القرعة على ما ذكرنا من قبل ، قال : وكذلك الحكم فيما لو قال : أول ولد تلدينه فهو حر ، فولدت اثنين وخرجا معا ، فالحكم فيهما كذلك .

                    134 - ( فصل )

                    فإن ولدت الأول ميتا والثاني حيا ، قال في " المغني " : ذكر الشريف : أنه يعتق الحي منهما ، وبه قال أبو حنيفة .

                    وقال أبو يوسف ، ومحمد الشافعي : لا يعتق واحد منهما ، قال : وهو الصحيح إن شاء الله ، لأن شرط العتق إنما وجد في الميت ، وليس بمحل للعتق ، فانحلت اليمين به .

                    قال : وإنما قلنا : إن شرط العتق وجد فيه ، لأنه أول ولد ، بدليل أنه لو قال لأمته : إذا ولدت فأنت حرة ، فولدت ولدا ميتا عتقت . [ ص: 269 ]

                    ووجه الأول : أن العتق مستحيل في الميت ، فتعلقت اليمين بالحي ، كما لو قال : إن ضربت فلانا فعبدي حر ، فضربه حيا عتق ، وإن ضربه ميتا ، لم يعتق ، ولأنه معلوم من طريق العادة : أنه قصد عقد يمينه على ولد يصح العتق فيه ، وهو أن يكون حيا ، فتصير الحياة مشروطة فيه ، وكأنه قال : أول ولد تلدينه حيا فهو حر .

                    وقال صاحب " المحرر " : إذا قال : إذا ولدت ولدا ، أو أول ولد تلدينه ، فهو حر ، فولدت ميتا ثم حيا ، أو قال : آخر ولد تلدينه حر ، فولدت حيا ثم ميتا ، ثم لم تلد بعده شيئا ، فهل يعتق الحي ؟ . على روايتين ، وإن قال : أول ما تلده أمتي حر ، فولدت ولدين ، وأشكل السابق : عتق أحدهما بالقرعة ، فإن بان للناس الذي أعتقه أخطأته القرعة عتق ، وهل يرق الآخر ؟ على وجهين . قلت : مسألة الأول والآخر : مبنية على أصلين : أحدهما : أنه هل يسقط حكم الميت ، ويصير وجوده كعدمه ، لامتناع نفوذ العتق فيه ، أو يعتبر حكمه كحكم الحي ؟

                    الثاني : هل من شرط الأول : أن يأتي بعده غيره ، أو يكفي فيه كونه سابقا مبتدأ به ، وإن لم يلحقه غيره ؟ وأما مسألة تعليق الحرية على مطلق الولادة ، ففيها إشكال ظاهر .

                    فإن صورتها أن يقول : إذا ولدت ولدا فهو حر .

                    فإذا ولدت ميتا ثم حيا ، فإما أن نعتبر حكم الميت أو لا نعتبره ، فإن لم نعتبره عتق الحي ; لأنه هو المولود ، إن اعتبرناه وحكمنا بعتقه ، فكذلك ينبغي أن يحكم بعتق الحي ; لوجود الصفة فيه .

                    فإن قيل : " إذا " لا تقتضي التكرار ، وقد انحلت اليمين بوجود الأول ، وقد تعلق به الحكم ، فلا يعتق الثاني . قيل : هذا مأخذ هذا القول : لكن قوله " إذا ولدت ولدا " نكرة في سياق الشرط ، فيعم كل ولد ، وهو قد جعل سبب العتق الولادة ، فيعم الحكم من وجهين ، أحدهما : عموم المعنى والسبب ، والثاني : عموم اللفظ بوقوع النكرة عامة . وهذا غير اقتضاء النكرة التكرار ، بل العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق الشرط بمنزلة العموم في " أي " و " من " في قوله : أي ولد ولدته ، أو من ولدته ، فهو حر ، فهذا لفظ عام ، وهذا عام ، فما الفرق بين العمومين ؟

                    فإن قيل : العموم هاهنا في نفس أداة الشرط ، والعموم في قوله " إذا ولدت ولدا " في المفعول الذي هو متعلق فعل الشرط ، لا في أداته . [ ص: 270 ]

                    قيل : أداة الشرط في " من " و " أي " هي نفس المفعول الذي هو متعلق الفعل ; ولهذا نحكم على محل " من " بالنصب على المفعولية ، ويظهر في " أي " فالعموم الذي في الأداة لنفس المفعول المولود ، وهو بعينه في قوله : إذا ولدت ولدا ، اللهم إلا أن يريد التخصيص بواحد ، ولا يريد العموم ، فيبقى من باب تخصيص العام بالنية .

                    135 - ( فصل )

                    وقوله في مسألة ما إذا أشكل السابق " إنه بان أن الذي أعتقه : أخطأته القرعة : عتق " أي حكم بعتقه من حين مباشرته لا أنه ينشئ فيه العتق من حين الذكر ، فإن عتقه مستند إلى سببه ، وهو سابق على الذكر . وقوله : " هل يرق الآخر ؟ " على وجهين مأخذهما : أن القرعة كاشفة أو منشئة .

                    فإن قيل : إنها منشئة للعتق : لم يرتفع بعد إنشائه العتق عنه ، وإن قيل : إنها كاشفة رق الآخر ، لأنا تبينا خطأها في الكشف ، ولا يلزم من إعمالها عند استبهام الأمر وخفائه إعمالها عند تبينه وظهوره ، يوضحه : أن التبين والظهور لو كان في أول الأمر اختص العتق بمن يؤثر به ، فكذلك في أثناء الحال .

                    وسر المسألة : أن استمرار حكم القرعة مشروط باستمرار الإشكال ، فإذا زال الإشكال ، زال شرط استمرارها ، وهذا أقيس لكن يقال : قد حكم بعتقه بالطريق التي نصبها الشارع طريقا إلى العتق ، وإن جاز أن يخطئ في نفس الأمر ، فقد عتق بأمر حكم الشارع أن يعتق به ، فكيف يرتفع عتقه ؟ وعلى هذا : فلا يبعد أن يقال باستمرار عتقه ، وأن من أخطأته القرعة يبقى على رقه ; لأن مباشرته بالعتق قد زال حكمها بالنسيان والجهل ، والقرعة نسخت حكم المباشرة وأبطلته ، حتى كأنه لم يكن ، وانتقل الحكم إلى القرعة ، فلا يجوز إبطاله ، فهذا لا يبعد أن يقال ، والله أعلم .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية