الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    والقضايا التي رويت في القافة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده : ليس في قضية واحدة ، منها أنهم قالوا : القائف تلفظ بلفظة " أشهد أنه ابنه " ولا يتلفظ بذلك القائف أصلا ، وإنما وقع الاعتماد على مجرد خبره ، وهو شهادة منه ، وهذا بين لمن تأمله ، ونصوص أحمد لا تشعر بهذا البناء الذي ذكره بوجه ، وإنما المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة ، ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال ، ولا جرى لهم في مقال ، ويتناقله بعضهم عن بعض ، ثم يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة ، فمنهم من يطردها ويلتزم القول بها ، ويضيف ذلك إلى الأئمة ، وهم لا يقولون به فيروج بين الناس بجاه الأئمة ، ويفتي ويحكم به والإمام لم يقله قط ، بل يكون قد نص على خلافه .

                    ونحن نذكر نصوص الإمام أحمد في هذه المسألة : قال جعفر بن محمد النسائي : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الولد يدعيه الرجلان ؟ قال : يدعي له رجلان من القافة ، فإن ألحقاه بأحدهما : فهو له .

                    وقال محمد بن داود المصيصي : سئل أبو عبد الله عن جارية بين رجلين وقعا عليها ؟ قال : إن ألحقوه بأحدهما فهو له ، قيل له : إن قال أحد القافة : هو لهذا ، وقال الآخر : هو لهذا ؟ قال : لا يقبل قول واحد حتى يجتمع اثنان ، يكونان كشاهدين .

                    وقال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : إن قال أحد القافة : هو لهذا .

                    وقال الآخر : هو لهذا ؟ قال : لا يقبل قول واحد حتى يجتمع اثنان ، فيكونا كشاهدين ، وإذا شهد اثنان من القافة أنه لهذا : فهو له .

                    واحتج من رجح هذا القول بأنه حكم بالشبه ، فيعتبر فيه العدد ، كالحكم بالمثل في جزاء الصيد .

                    قالوا : بل هو أولى لأن درك المثلية في الصيد أظهر بكثير من دركها هاهنا : فإذا تابع القائف غيره سكنت النفس واطمأنت إلى قوله .

                    وقال أحمد - وفي رواية أبي طالب - في الولد يكون بين الرجلين : يدعي القائف ، فإذا قال هو منهما : فهو منهما ، نظرا إلى ما يقول القائف ، وإن جعله لواحد : فهو لواحد .

                    وقال في رواية إسماعيل بن سعيد : وسئل عن القائف : هل يقضى بقوله ؟ فقال : يقضى بذلك إذا علم .

                    ومن حجة هذا القول - وهو اختيار القاضي وصاحب " المستوعب " ، والصحيح من المذهب [ ص: 195 ] الشافعي ، وقول أهل الظاهر - : أن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز المدلجي وحده ، وصح عن عمر أنه استقاف المصطلقي وحده ، كما تقدم ، واستقاف ابن عباس ابن كلدة وحده ، واستلحق بقوله .

                    وقد نص أحمد على أنه يكتفى بالطبيب والبيطار الواحد إذا لم يوجد سواه والقائف مثله ، فتخرج له رواية ثالثة كذلك ، والله أعلم .

                    بل هذا أولى من الطبيب والبيطار ، لأنهما أكثر وجودا منه ، فإذا اكتفي بالواحد منهما - مع عدم غيره - فالقائف أولى .

                    وأما قولكم : " إن داود وسليمان لم يحكما بالقافة في قصة الولد الذي ادعته المرأتان " .

                    فيقال : قد اختلف القائلون بالقافة : هل يعتبر في تداعي المرأتين كما يعتبر في تداعي الرجلين ؟ وفي ذلك وجهان لأصحاب الشافعي :

                    أحدهما : لا يعتبر هاهنا ، وإن اعتبر في تداعي الرجلين .

                    قالوا : والفرق بينهما أنا يمكننا التوصل إلى معرفة الأم يقينا ، بخلاف الأب ، فإنا لا سبيل لنا إلى ذلك ، فاحتجنا إلى القافة ، وعلى هذا : فلا إشكال .

                    والوجه الآخر - وهو الصحيح - : أن القافة تجري هاهنا كما تجري بين الرجلين ، قاله أحمد - في رواية ابن الحكم في يهودية ومسلمة ولدتا ، فادعت اليهودية ولد المسلمة - قيل له : يكون في هذا القافة ؟ قال : ما أحسنه ا هـ .

                    والأحاديث المتقدمة التي دلت على أن الولد يأخذ الشبه من الأم تارة ، ومن الأب تارة : تدل على صحة هذا القول .

                    فإن الحكم بالقافة إنما يتوهم بالشبه ، وقد تقدم في ذلك حديث عائشة وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وثوبان ، وعبد الله بن سلام ، وكون الأم تمكن معرفتها يقينا - بخلاف الأب - لا يدل على أن القافة لا تعتبر في حق المرأتين ، لأنا إنما نستعملها عند عدم معرفة الأم ، ولا يلزم من عدم استعمالها عند تيقن معرفة الأم عدم استعمالها عند الجهل بها ، كما أنا إنما نستعملها في حق الرجلين عند عدم تيقن الفراش ، لا عند تيقنه .

                    وأما كون داود وسليمان لم يعتبراها : فإما ألا يكون ذلك شريعة لهما ، وهو الظاهر ، إذ لو كان ذلك شرعا لدعوا القافة للولد .

                    وإما أن تكون القافة مشروعة في تلك الشريعة ، ولكن في حق الرجلين ، كما هو أحد القولين في شريعتنا ، وحينئذ فلا كلام . وإما أن تكون مشروعة مطلقا ، ولكن أشكل على نبي الله أمر الشبه بحيث لم يظهر لهما ، وأن [ ص: 196 ] القائف لا يعلم الحال في كل صورة ، بل قد يشتبه عليه كثيرا . وعلى كل تقدير : فلا حجة في القصة على إبطال حكم القافة في شريعتنا ، والله أعلم .

                    بل قصة داود وسليمان صريحة في إبطال الولد بأمين ، فإنه لم يحكم به نبي من النبيين الكريمين - صلوات الله عليهما وسلامه - بل اتفقا على إلغاء هذا الحكم ، فالذي دلت عليه القصة لا يقولون به ، والذي يقولون به غير ما دلت عليه القصة .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية