الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    57 - ( فصل )

                    وإذا قضى بالشاهد واليمين ، فالحكم بالشاهد وحده ، واليمين تقوية وتوكيد . هذا منصوص أحمد ، فلو رجع الشاهد ، كان الضمان كله عليه . قال الخلال في " الجامع " : باب إذا قضى باليمين مع الشاهد ، فرجع الشاهد - ثم ذكر من رواية ابن مشيش - سئل أحمد عن الشاهد واليمين : تقول به ؟ قال . أي لعمري . قيل له : فإن رجع الشاهد ؟ قال : تكون المتالف على الشاهد وحده . قيل : كيف لا تكون على الطالب ، لأنه قد استحق بيمينه ، ويكون بمنزلة الشاهدين ؟ قال : لا ، إنما هو السنة - يعني اليمين .

                    [ ص: 119 ] وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل قضي عليه بشهادة شاهدين ، فرجع أحد الشاهدين ؟ قال : يلزمه ، ويرد الحكم . قيل له : فإن قضى بالشاهد ويمين المدعي ، ثم رجع الشاهد ؟ قال : إن أتلف الشيء كان على الشاهد ; لأنه إنما ثبت هاهنا بشهادته ، ليست اليمين من الشهادة في شيء .

                    وقال أبو الحارث : قلت لأحمد : فإن رجع الشاهد عن شهادته بعد ؟ قال : يضمن المال كله ، به كان الحكم .

                    وقال ابن مشيش : سألت أبا عبد الله ، فقلت : إذا استحق الرجل المال بشهادة شاهد مع يمينه ، ثم رجع الشاهد ؟ فقال : إذا كانا شاهدين ، ثم رجع شاهد : غرم نصف المال . فإن كانت شهادة شاهد مع يمين الطالب ، ثم رجع الشاهد : غرم المال كله . قلت : المال كله ؟ قال : نعم .

                    وقال يعقوب بن بختان : سألت أحمد عن الرجل إذا استحق المال بشهادة شاهد مع يمينه ، ثم رجع الشاهد ؟ فقال : يرد المال . قلت . أيش معنى اليمين ؟ فقال : قضاء النبي صلى الله عليه وسلم .

                    وقال أحمد بن القاسم : قلت لأبي عبد الله : فإن رجع الشاهد عن الشهادة كم يغرم ؟ قال : المال كله ; لأنه شاهد واحد قضي بشهادته ، ثم قال : كيف قول مالك فيها ؟ قلت : لا أحفظه . قلت له - بعد هذا المجلس - إن مالكا يقول : إن رجع الشاهد فعليه نصف الحق ، لأني إنما حكمت بمقتضى شهادته ، ويمين الطالب ، فلم أره رجع عن قوله .

                    وقال الشافعي - كقول مالك - : بناء على أن اليمين قامت مقام الشاهد ، فوقع الحكم بهما . وأحمد أنكر ذلك ، ويؤيده من وجوه : منها : أن الشاهد حجة الدعوى ، فكان منفردا بالضمان . ومنها : أن اليمين قول الخصم ، وقوله ليس بحجة على خصمه ، وإنما هو شرط للحكم ، فجرى مجرى مطالبة الحكم به . ومنها : أنا لو جعلناها حجة لكنا إنما جعلناها حجة بشهادة الشاهد . ومنها : أنها لو كانت كالشاهد لجاز تقديمها على شهادة الشاهد الآخر ، مع أن في ذلك وجهين لنا وللشافعية .

                    قال القاضي في " التعليق " : واحتج - يعني : المنازع في القضاء بالشاهد واليمين - بأنه لو كانت يمين المدعي كشاهد آخر لجاز له أن يقدمها على الشاهد الذي عنده ، كما لو كان عنده شاهدان جاز أن يقدم أيهما شاء .

                    [ ص: 120 ] قال : والجواب أنا لا نقول : إنهما بمنزلة شاهد آخر ، ولهذا يتعلق الضمان بالشاهد وإنما اعتبرناها احتياطا . قال : فإن قيل : ما ذهبتم إليه يؤدي إلى أن يثبت الحق بشاهد واحد . قيل : هذا غير ممتنع ، كما قاله المخالف في الهلال في الغيم ، وفي القابلة ، وهو ضرورة أيضا ; لأن المعاملات تكثر وتتكرر ، فلا يتفق كل وقت شاهدان ، وقياسها على احتياط الحنفية بالحبس مع الشاهد للإعسار ويمين المدعي على الغائب مع البينة .

                    قال : وأما جواز تقديم اليمين على الشاهد ، فقال : لا نعرف الرواية بمنع الجواز . قال : ويحتمل أن نقول بجواز الحلف أولا ، ثم تسمع الشهادة ، وهو قول أبي هريرة ، ويحتمل أنه لا يجوز تقدمة اليمين على الشاهد ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث ، قال : إذا ثبت له شاهد واحد حلف وأعطي ، فأثبت اليمين بعد ثبوت الشاهد ، لأن اليمين تكون في جنبة أقوى المتداعيين ، وإنما تقوى حينئذ بالشاهد ، ولأن اليمين يجوز أن ترتب على ما لا ترتب عليه الشهادة ، فيكون من شرط اليمين : تقدم شهادة الشاهد ، ولا يعتبر هذا المعنى في الشاهدين .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية