الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرابع : روينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - أنه قال: اتبع لفظ الشيخ في قوله: " حدثنا، وحدثني، وسمعت، وأخبرنا" ولا تعدوه .

قلت : ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه "أخبرنا" بـ "حدثنا"، ونحو ذلك، وإن كان في إقامة أحدهما مقام الآخر خلاف وتفصيل سبق؛ لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما .

ولو وجدت من ذلك إسنادا عرفت من مذهب رجاله التسوية بينهما فإقامتك أحدهما مقام الآخر من باب تجويز الرواية بالمعنى ، وذلك وإن كان فيه خلاف معروف فالذي نراه الامتناع من إجراء مثله في إبدال ما وضع في الكتب المصنفة، والمجامع المجموعة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وما ذكره الخطيب أبو بكر في "كفايته" من إجراء ذلك الخلاف في هذا، فمحمول عندنا على ما يسمعه الطالب من لفظ المحدث، غير موضوع في كتاب مؤلف. والله أعلم .

الخامس : اختلف أهل العلم في صحة سماع من ينسخ وقت القراءة، فورد عن الإمام إبراهيم الحربي ، وأبي أحمد بن عدي الحافظ ، والأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني الفقيه الأصولي، وغيرهم نفي ذلك .

وروينا عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي ، أحد أئمة الشافعيين بخراسان أنه سئل عمن يكتب في السماع؟ فقال : يقول: " حضرت " ولا يقل: " حدثنا ولا أخبرنا".

وورد عن موسى بن هارون الحمال تجويز ذلك . وعن أبي حاتم الرازي قال : "كتبت عند عارم وهو يقرأ، وكتبت عند عمرو بن مرزوق وهو يقرأ ". وعن عبد الله بن المبارك : أنه قرئ عليه، وهو ينسخ شيئا آخر غير ما يقرأ .

ولا فرق بين النسخ من السامع، والنسخ من المسمع .

قلت : وخير من هذا الإطلاق التفصيل . فنقول : لا يصح السماع إذا كان النسخ بحيث يمتنع معه فهم الناسخ لما يقرأ، حتى يكون الواصل إلى سمعه كأنه صوت غفل . ويصح إذا كان بحيث لا يمتنع معه الفهم .

كمثل ما رويناه عن الحافظ العالم أبي الحسن الدارقطني: أنه حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار، فجلس ينسخ جزءا كان معه، وإسماعيل يملي، فقال له بعض الحاضرين : لا يصح سماعك وأنت تنسخ ، فقال : فهمي للإملاء خلاف فهمك .

ثم قال : تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن؟ فقال : لا، فقال الدارقطني: أملى ثمانية عشر حديثا، فعدت الأحاديث فوجدت كما قال .

ثم قال أبو الحسن: الحديث الأول منها عن فلان، عن فلان، ومتنه كذا . والحديث الثاني: عن فلان، عن فلان، ومتنه كذا.، ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث، ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى على آخرها، فتعجب الناس منه. والله أعلم .

[ ص: 630 ] [ ص: 631 ]

التالي السابق


[ ص: 630 ] [ ص: 631 ] 105 - قوله: (ليس لك - فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك - أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه "أخبرنا" بـ "حدثنا" ونحو ذلك، [ ص: 632 ] وإن كان في إقامة أحدهما مقام الآخر خلاف وتفصيل سبق؛ لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما .

ولو وجدت من ذلك إسنادا عرفت من مذهب رجاله التسوية بينهما فإقامتك أحدهما مقام الآخر من باب تجويز الرواية بالمعنى ، وذلك - وإن كان فيه خلاف معروف - فالذي نراه الامتناع من إجراء مثله في إبدال ما وضع في الكتب المصنفة، والمجامع المجموعة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وما ذكره الخطيب أبو بكر في "كفايته" من إجراء ذلك الخلاف في هذا، فمحمول عندنا على ما يسمعه الطالب من لفظ المحدث، غير موضوع في كتاب مؤلف. والله أعلم) انتهى.

وفيه أمران:

أحدهما أن ما أختاره المصنف قد ضعفه ابن دقيق العيد في الاقتراح فقال: "ومما وقع في اصطلاح المتأخرين أنه إذا روى في كتاب مصنف بيننا وبينه وسائط تصرفوا في أسماء الرواة وقلبوها على أنواع إلى أن يصلوا إلى المصنف، فإذا وصلوا إليه تبعوا لفظه من غير تغيير". قال: "وهنا بحثان" فذكر الأول، ثم قال: "والبحث الثاني الذي اصطلحوا عليه من عدم التغيير للألفاظ بعد وصولهم إلى المصنف ينبغي أن ينظر فيه هل هو على سبيل الوجوب أو هو اصطلاح على سبيل الأولى؟" قال: "وفي كلام بعضهم ما يشير إلى أنه [ ص: 633 ] ممتنع؛ لأنه وإن كان له الرواية بالمعنى فليس له تغيير التصنيف" قال: "وهذا كلام فيه ضعف" قال: "وأقل ما فيه أنه يقتضي تجويز هذا فيما ننقل من المصنفات المتقدمة إلى أجزائنا وتخاريجنا، فإنه ليس فيه تغيير المصنف المتقدم، وليس هذا جاريا على الاصطلاح؛ فإن الاصطلاح على أن لا نغير الألفاظ بعد الانتهاء إلى الكتب المصنفة، سواء رويناها فيها أو نقلناها منها" انتهى.

وما ذكره من أنه يقتضي تجويزه فيما ننقل من المصنفات المتقدمة إلى أجزائنا وتخاريجنا ليس بمسلم، بل آخر كلام ابن الصلاح يشعر أنه إذا نقل حديثا من كتاب وعزى إليه لا يجوز فيه الإبدال، سواء نقلناه في تأليف لنا أو لفظا. والله أعلم.

الأمر الثاني: أن تعليل المصنف المنع باحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بين "أخبرنا" و"حدثنا" ليس بجيد من حيث أن الحكم لا يختلف في الجائز والممتنع بأن يكون الشيخ يرى الجائز ممتنعا أو الممتنع جائزا، وقد صرح أهل الحديث بذلك في مواضع، منها: أن يكون الشيخ ممن يرى جواز إطلاق "حدثنا" و"أنبأنا" في الإجازة، وأذن للطالب أن يقول ذلك إذا روى عنه بالإجازة، فإنه لا يجوز للطالب وإن أذن له الشيخ، وقد صرح به المصنف كما سيأتي.

وكذلك أيضا لم يشترطوا في جواز الرواية بالمعنى أن لا يكون في الإسناد من يمنع ذلك كابن سيرين، بل جوزوا الرواية بالمعنى بشروط ليس منها هذا. والله أعلم.




الخدمات العلمية