الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          التباس المفاهيم

          وقد أدى هـذا الغبش في فهم الإسلام، وعدم وضوح الرؤية لأصول شريعته، ومقاصد رسالته، إلى التباس كثير من المفاهيم الإسلامية، واضطرابها في أذهان الشباب أو فهمها على غير وجهها. [ ص: 76 ]

          ومنها: مفاهيم مهمة يلزم تحديدها وتوضيحها لما يترتب عليها من آثار بالغة الخطورة في الحكم على الآخرين وتقويمهم، وتكييف العلاقة بهم، وذلك مثل: مفاهيم الإيمان والإسلام، والكفر والشرك، والنفاق والجاهلية ونحوها.

          إن قوما لم يتذوقوا اللغة ولم يدركوا أسرارها، خلطوا في هـذه المفاهيم بين الحقيقة والمجاز، فاختلطت عليهم الأمور، والتبست عليهم السبل، واضطربت الموازين. إنهم لم يفرقوا بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، وبين الإسلام الكامل ومجرد الإسلام. ولم يميزوا بين الكفر الأكبر المخرج عن الملة، وكفر المعصية. ولا بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ولا بين نفاق العقيدة ونفاق العمل، وجعلوا جاهلية الخلق والسلوك كجاهلية العقيدة سواء.

          ومن هـنا يجب إلقاء بعض الضوء على هـذه المفاهيم - التفصيل موعده كتابنا المرتقب عن قضية التكفير إن شاء الله - حتى لا يفضي الغبش فيها إلى خطر جسيم. فالإيمان إذا أطلق ينصرف إلى الكامل، وهو ما يجمع بين تصديق الجنان، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح والأبدان، وهذا هـو الإيمان المذكور في مثل قوله تعالى: ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.. ) (الأنفال:2) وقوله: ( قد أفلح المؤمنون .. ) (المؤمنون:1) .

          وقوله: ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هـم الصادقون ) (الحجرات:15) [ ص: 77 ]

          وفي مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه.. فليقل خيرا أو ليصمت ) .

          وهو المنفي في مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) وقوله: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. )

          فالنفي هـنا ينصب على كمال الإيمان لا على أصل الإيمان، كما تقول، ليس برجل من لا يغار على أهله، وليس بعالم من لم يعمل بعلمه، فالنفي هـنا لكمال الرجولة لا لأصلها، ولكمال العلم لا لأصله، وهذا الإيمان الكامل هـو الذي أخبر عنه الحديث: أنه بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان.

          وهو الذي ألف فيه الإمام أبو بكر البيهقي كتابه " الجامع لشعب الإيمان " وهي شعب تشمل أصل الشجرة، وهي العقائد، وتشمل الفروع والثمار من العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب. فمن ضيع الأصل بالكلية، فقد انتفى عنه مطلق الإيمان، ومن ضيع بعض الفروع وأصل الإيمان باق، فقد انتفى عنه من كمال الإيمان بقدر ما ضيع منها، ولكن لا نحكم عليه بالكفر. وأصل الإيمان هـو ما جاء في حديث جبريل : الإيمان: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر ) .

          وقد ذكر الحافظ ابن حجر في " الفتح " أن السلف قالوا: الإيمان هـو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هـنا نشأ لهم القول بأنه يزيد وينقص. والمرجئة قالوا: [ ص: 78 ] هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هـو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هـو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف: أنهم جعلوا الأعمال شرطا في صحته، والسلف جعلوها شرطا في كماله، قال: وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا، فالإيمان الإقرار فقط. فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر، إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره، كالسجود للصنم. فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر، فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفى عنه فبالنظر إلى حقيقته. اه

          والإسلام قد يطلق على مجرد إعلان الشهادتين، وهما باب الدخول في الإسلام، فالكافر إنما يدخل الإسلام، ويصبح في عداد المسلمين بمجرد نطقهما قبل أن يؤدي الصلاة أو الزكاة أو غيرهما، إذ هـذه العبادات لا تقبل إلا من مسلم، وإنما يكفي أن يقر بهذه الفرائض ويلتزم بها، وإن لم يؤدها بالفعل، وهذه الشهادة هـي التي تعصم دم الإنسان وماله، كما في الحديث: ( فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ) .

          وقد يطلق الإسلام على الأركان الأساسية فيه، وهي التي جاء فيها حديث ابن عمر المشهور ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت ) .

          وهي التي فسر بها رسول الله " الإسلام " في حديث جبريل المعروف حين [ ص: 79 ] قال: ( أخبرني عن الإسلام فقال: الإسلام: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان ) .

          وهنا نجد في حديث جبريل الفرق بين مفهومي الإيمان والإسلام، أما إذا اقترنا في الذكر، فكل واحد منهما يتضمن الآخر، وهما متلازمان في الواقع، فلا يوجد إيمان بلا إسلام، ولا إسلام بلا إيمان. فالإيمان يتعلق بالقلب، والإسلام يتعلق بالجوارح والظواهر، وهذا ما جاء في الحديث: ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) [1]

          وهو ما تدل عليه آية سورة الحجرات: ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) .

          وقد يطلق الإسلام في موضع آخر، ويراد به أيضا الإسلام الكامل، كما في حديث: ( الإسلام أن يسلم قلبك لله، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك ) وحديث ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )

          وحديث ( وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ) وغيرها من الأحاديث...

          أما الكفر فقد يرد في لسان الشرع بمعنى الجحود والتكذيب لله ولرسالاته، كما في قوله تعالى: ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) " (النساء:136) وقد يطلق بمعنى الردة عن الإسلام، والخروج من حظيرة الإيمان، كما في قوله تعالى: ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) (المائدة:5) وقوله: ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت [ ص: 80 ] أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هـم فيها خالدون ) (البقرة:217) . وقد تطلق كلمة الكفر على بعض المعاصي العملية التي لا تحمل إنكارا ولا جحودا ولا تكذيبا لله ورسوله.

          يقول العلامة ابن القيم في كتابه " مدارج السالكين " :

          الكفر نوعان: أكبر وأصغر.

          فالكفر الأكبر: هـو الموجب للخلود في النار.

          والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود. كما في الحديث ( اثنتان في أمتي، هـما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة ) وقوله في السنن: ( من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد ) وفي الحديث الآخر: ( من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ) وقوله: ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) (المائدة:44) " قال ابن عباس : " ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر " وكذلك قال طاووس ، وقال عطاء : هـو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.

          ومنهم: من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له، وهو قول عكرمة . وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم أو لم يحكم. [ ص: 81 ]

          ومنهم: من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله، قال: ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام، وهذا تأويل عبد العزيز الكناني ، وهو أيضا بعيد، إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل، وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه.

          ومنهم: من تأولها على الحكم بمخالفة النص، تعمدا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل، حكاه البغوي عن العلماء عموما.

          ومنهم: من تأولها على أهل الكتاب، وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما، وهو بعيد، وهو خلاف ظاهر اللفظ، فلا يصار إليه.

          ومنهم: من جعله كفرا ينقل عن الملة.

          قال ابن القيم :

          (والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر، بحسب حال الحاكم؛ فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هـذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه. مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطئ، له حكم المخطئين.

          والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر، فإنها ضد الشكر، الذي هـو العمل بالطاعة، فالسعي: إما شكر، وإما كفر، وإما ثالث، لا من هـذا ولا من هـذا، والله أعلم) .

          والشرك كذلك منه ما هـو أكبر، وهو دعاء إله أو آلهة مع الله أو من دون الله، وهو الذي جاء فيه قوله تعالى: [ ص: 82 ]

          ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) (النساء:48) .

          ومنه ما هـو أصغر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) [2] وقوله: ( من علق - أي: تميمة - فقد أشرك ) [3]

          وقوله: ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) . [4]

          وكذلك النفاق، منه النفاق الأكبر، نفاق العقيدة، وهو: أن يبطن الكفر، ويظهر الإيمان خداعا وكذبا، وهو المذكور في أوائل سورة البقرة ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هـم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا ) (البقرة:8-9) ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) (البقرة:14) .

          وهو المذكور أيضا في أول سورة " المنافقون " وفي غيرها.

          وهذا النفاق هـو المتوعد عليه في قوله تعالى: ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ) (النساء:145) .

          وهناك النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، بمعنى أن يتصف المرء المسلم بصفات المنافقين وأخلاقهم، ولكن قلبه مؤمن بالله ورسوله وباليوم الآخر.

          وهذا ما جاءت به، الأحاديث مثل: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث ) [ ص: 83 ] ( كذب، وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ) [5]

          وحديث: ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) [6]

          وهذا النفاق هـو الذي كان يخافه الصحابة والسلف على أنفسهم، وقالوا: ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن!

          التالي السابق


          الخدمات العلمية