الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          الهجوم العلني والتآمر الخفي على الأمة الإسلامية:

          أضف إلى ذلك كله ما لقيه ويلقاه العالم الإسلامي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا من هـجمة شرسة على أوطانه، ومقدساته، وما يشن على الأمة الإسلامية من حرب لا تخبو نارها: علنية حينا، وخفية أحيانا، حرب اتفقت عليها كل القوى غير المسلمة: يهودية وصليبية وشيوعية ووثنية، حتى إنها لتختلف فيما بينها كل الاختلاف، ثم نراها تتفق كل الاتفاق إذا هـبت ريح الإسلام في صورة دعوة أو حركة أو دولة.

          ولهذا تجد كل القضايا من يناصرها ماديا، ويدعمها أدبيا من شرق وغرب، مستفيدة من تناقضات الدول الكبرى، وخاصة الدولتان العظميان: أمريكا وروسيا ، إلا القضايا الإسلامية، فإنها لا تجد تأييدا حقيقا عمليا من هـؤلاء ولا هـؤلاء. وصدق الله إذ يقول: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) .

          وهل يسع مسلما يؤمن بالأخوة الإسلامية، ويعتز بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويؤمن بأن المسلمين - وإن اختلفت أوطانهم وألسنتهم - أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وأن من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم - أن يرى مآسي أمته في كل مكان ويرى [ ص: 115 ] إخواته في العقيدة معرضين للإبادة المادية بالتقتيل والتنكيل، أو الإبادة المعنوية بالتنصير أو " التشييع " ، أو على الأقل التجهيل والتضليل، ثم يصبح ويمسي قرير العين، ضاحكا ملء سنه، نائما ملء جفنه؟ فأين أخوة الإيمان، ورابطة الإسلام؟

          إن أنباء الصباح والظهيرة والمساء، تحمل إلى المسلم الغيور كل يوم عن إخوانه في فلسطين ، أو في لبنان ، أو في أفغانستان ، أو في الفلبين ، أو في إرتيريا أو الصومال أو قبرص أو الهند ، أو غيرها من البلاد التي يعيش فيها المسلمون أقلية مضطهدة، أو أكثرية مقهورة، ما يزلزل قلبه زلزالا شديدا، وما يعصر قلبه من الألم عصرا، وما يكوي كبده بالأسى والحسرة كي النار أو هـو أشد إيلاما.

          وأهم من ذلك أنه لا يجد من حكومات بلاده الإسلامية تجاوبا مع هـذه القضايا العادلة، بل يجد الإعراض عنها، أو التعتيم عليها، أو الوقوف مع خصومها، وتغليب المصلحة الإقليمية الضيقة، أو الاعتبارات العرقية الجاهلية، أو الارتباطات والولاءات للمعسكرات المختلفة، على الولاء لله ولرسوله ولدينه ولأمته ولقضاياها.

          وفوق ذلك يقرأ الشباب المسلم ويسمع: أن هـذه المواقف السلبية من قضايا الإسلام داخل بلاده، إنما تصنعها القوى المعادية للإسلام خارج بلاده، وأن حكامه ليسوا إلا أدوات في أيدي الصهيونية، أو الصليبية العالمية، أو الشيوعية الدولية، تحركهم من وراء ستار فيتحركون، وتخوفهم من الانتفاضة الإسلامية الفتية، فيخافون، ثم تدفعهم لضربها، فيندفعون! [ ص: 116 ]

          كان من القضايا التي فجرت الكوامن لدى الشباب المسلم في السنوات الأخيرة، ما آلت إليه قضية العرب والمسلمين الأولى بعد النكبة الكبرى في حزيران (يونيو) سنة 1967م تلك التي خففو وقعها فسموها " نكسة " .

          لقد عاش الشباب العربي المسلم، وهو يلقن أن إسرائيل كيان طفيلي دخيل قام على الاغتصاب والعدوان، وأن تحرير أرض الإسلام من هـذه الجرثومة الغريبة في جسم الأمة المسلمة فريضة دينية وقومية، وأن لا حق لدولة إسرائيل في البقاء على أرض ليست لها، وكما قال مفتي فلسطين الأكبر الحاج أمين الحسيني رحمه الله: إن فلسطين ليست بلدا بغير شعب حتى تستقبل شعبا بغير بلد!

          ثم دار الفلك دورته فكانت كارثة 1967م وإذا بالسياسة العربية تتخذ مسارا جديدا كل هـمه وغايته ليس أكثر من " إزالة آثار العدوان " أي: الاعتراف بإسرائيل، وبكل ما عدت عليه قبل 5 حزيران (يونيه) 1967م ، ومعنى هـذا: أن العدوان الجديد قد أضفى الشرعية على العدوان القديم!.

          فلماذا كانت حرب 1948م ؟ ولماذا كانت حرب 1956م ؟ ولماذا كانت حرب 1967م؟.

          لماذا لم تسلموا لإسرائيل منذ التقسيم، وتريحوا الأمة من أعباء الحرب وخسائرها وويلاتها؟

          وجاء السعي وراء ما سمى " الحل السلمي " ومعاهدات السلام مخيبا للآمال ومحبطا لكل ما كان عند الشباب من توثب وطموح - ومهما برره من برره - بضروات واعتبارات عسكرية أو سياسية محلية أو دولية، فقد كان ذلك صدمة شديدة العنف لأنفس الشباب المسلم وآماله. [ ص: 117 ]

          وزاد من وقع الصدمة على نفسه أن القوى العالمية الكبرى كلها تؤيد بقاء إسرائيل ، مع وضوح حقنا نحن العرب والمسلمين، إنها الصليبية في شكل جديد، هـكذا يفكر الشباب ويشعرون، والوقائع تؤيدهم.

          هذا الشعور ولا شك، يعمل عمله في أنفس الناشئة المسلمة، الشعور بتلك الروح الصليبية التي لا تزال تحرك الكثيرين من ساسة الغرب وقادتهم إلى اليوم، والنظر إلى العالم الإسلامي وإلى كل حركة إسلامية فيه من خلال الأحقاد الموروثة من عهود الصراع مع أمة الإسلام.

          ولقد تشكك كثير من مثقفي المسلمين المستنيرين وشككوا، حينا من الدهر في صحة هـذه القضية: (الروح الصليبية لدى الغرب) بدعوى أن المصالح وحدها هـي الدافع الأوحد - وإن تساهلنا - قلنا: المحرك الأول - الذي يؤثر على صنع القرار السياسي أو العسكري عند القوم.

          ولم تلبث الأيام أن بينت لهؤلاء المتفائلين أنهم مخطئون، وأنا لا أتحدث عن " اللنبي " أو " غورو " بل أتحدث عن المعاصرين.

          لماذا يقف هـؤلاء مع إسرائيل إلى اليوم؟ لماذا يعلنون مصرين على أنها خلقت لتبقى؟ لماذا تتحدى أمريكا العالم كله باستخدام حق الفيتو كلما أراد مجلس الأمن أن يدين إسرائيل؟

          لماذا تساند الحبشة ضد أرتيريا؟

          لماذا تقبر القضايا الإسلامية ويعتم عليها، في حين تقام الدنيا ولا تقعد من أجل اختطاف سياسي أو طائرة أو أي حادث فردي في أي مدينة في الشرق أو الغرب، أو جزر واق الواق؟ لماذا كان دم المسلمين وحدهم أرخص دماء أهل الأرض؟ [ ص: 118 ]

          إنه الثالوث الجهنمي الرهيب، يتآمر على أمتنا، وتتداعى علينا قواه كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، ثالوث اليهودية والصليبية والشيوعية، الذي اصطلح أهله على حساب وجودنا، وتم وفاقهم على أن يقتسموا المغانم، ويكون علينا المغارم، بل على أن يكونوا هـم الجزارين ونحن الضحايا.

          أما حكامنا فهم في نظر الشباب " أحجار على رقعة الشطرنج " تحركها وتنقلها من موقع إلى موقع، تلك القوى الخفية التي تحكم العالم! وما الانقلابات التي نشهدها، والتغيرات التي نراها إلا " لعبة " تلعبها تلك القوى على مسرح السياسة تريك الجبان بطلا يقاتل ويضرب، ويكر ويفر، وهو في حقيقته لا يعرف من أمر الكر والفر شيئا، إنما هـو الخداع والتمثيلي.

          قد يكون في الكلام بعض المبالغة والتهويل، لكن فيه بعض الحق بالتأكيد، وتدل عليه مواقف ومظاهر شتى، وهو الذي رسخ في أذهان الكثيرين أن هـؤلاء الحكام متآمرون مع أعداء الإسلام على إجهاض الصحوة الإسلامية، وضرب الحركة الإسلامية، حتى لا تبلغ المسيرة غايتها، ولا يؤتي الزرع أكله، فهؤلاء عند الشباب في الظاهر زعماء وطنيون، على أوطانهم يغارون، وفي الباطن عملاء مأجورون، على دين أمتهم يغيرون، ولحساب أعدائها يعملون!

          التالي السابق


          الخدمات العلمية