الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          4- ادعوا بالحكمة والحسنى

          وأنصح هـؤلاء الشباب المتدينين، رابعا: أن يتبعوا المنهج الذي رسمه القرآن في الدعوة إلى سبيل الله وجدال المخالفين، وهو ما جاء في خواتيم سورة النحل خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم , ولكي نهتدي بهديه من بعده: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل: 125) .

          ومن تأمل الآية الكريمة وجد أنها لا تكتفي بالأمر بالجدال بالطريقة الحسنة، بل أمرت بالتي هـي أحسن، فإذا كان هـناك طريقتان للحوار والمناقشة، إحداهما: حسنة، والأخرى أحسن منها، وجب على المسلم أن يجادل بالتي هـي أحسن، جذبا للقلوب النافرة، وتقريبا للأنفس المتباعدة.

          ومن التي هـي أحسن: ذكر مواضع الاتفاق بين المتجادلين، والانطلاق منها إلى مواضع الخلاف، عسى أن يتفق عليها كما في قوله تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) (العنكبوت:46) . [ ص: 212 ] أما مواضع الاختلاف، فالحكم فيها إلى الله يوم القيامة: ( وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ) (الحج: 68-69) .

          وإذا كان هـذا أسلوب جدال المسلم لغير المسلم، فكيف يكون جدال المسلم للمسلم وقد أظلتهما وحدة العقيدة والأخوة في الدين؟

          إن بعض الإخوة يخلطون بين الصراحة في الحق والخشونة في الأسلوب، مع أنه لا تلازم بينهما، والداعية الحكيم هـو الذي يوصل الدعوة إلى غيره بألين الطرق، وأرق العبارات، دون أدنى تفريط في المضمون.

          والواقع المشاهد يعلمنا: أن الأسلوب الخشن يضيع المضمون الحسن، ولهذا ورد في الأثر: من أمر بمعروف، فليكن أمره بمعروف.

          وقال الإمام الغزالي في كتاب " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " من " الإحياء " لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه, حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه.

          ومما ذكره هـنا رحمه الله: أن رجلا دخل على المأمون ، الخليفة العباسي، يـأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فأغلط له القول، وقسا في التعبير، ولم يراع أن لكل مقام مقالا يناسبه، وكان المأمون ذا فقه فقال [ ص: 213 ] له: يا هـذا، ارفق، فإن الله بعث من هـو خير منك إلى من هـو شر مني، وأمره بالرفق، بعث موسى وهارون، وهما خير منك، إلى فرعون، وهو شر مني، وأوصاهما بقوله: ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه:43)

          وبهذا حج المأمون ذلك الرجل وخصمه، فلم يجد جوابا. ومما علمه الله لموسى أن تكون دعوته لفرعون بهذه الصيغة اللينة الرقيقة: ( فقل هـل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى ) (النازعات: 18،19) .

          ومن اطلع على حوار موسى مع فرعون في القرآن الكريم، يجده قد وعى وصية الله له، ونفذها بكل دقة برغم تجبر فرعون واستعلائه، وتهجمه واتهامه وتهديده، كما يتبين ذلك من سورة الشعراء.

          ومن درس سيرة رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم وسنته في هـذا الجانب رأى في هـديه: الرفق الذي يرفض العنف، والرحمة التي تنافي القسوة، واللين الذي يأبى الفظاظة: كيف لا، وقد وصفه الله بقوله: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة: 128) .

          وصور علاقته بأصحابه في قوله: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (آل عمران: 159) .

          ( ولوى بعض اليهود لسانه في تحيته صلى الله عليه وسلم قال: السام عليكم (أي: الموت) بدل " السلام عليكم " فغضبت عائشة وردت عليه ردا عنيفا، ولم يزد عليه السلام على أن قال: وعليكم. ثم قال لعائشة : إن الله يحب الرفق في الأمر كله. ) [1] أي في أمر الدين والدنيا، قولا أو عملا. [ ص: 214 ] وعنها أنه قال: ( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه ) [2]

          وعنها أيضا أنه قال: ( وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) [3] بهذا التعميم الذي يشمل كل شيء.

          وعن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يحرم الرفق يحرم الخير كله. ) [4] وأي عقوبة أشد وأقسى من أن يحرم الإنسان الخير كل الخير؟!

          وأحسب أن في هـذا القدر من النصوص ما يكفي لإقناع أبنائنا -الذين اتخذوا التهجم والعنف سمة لهم - بالعدول عن طريقتهم الخشنة إلى طريق الحكمة والموعظة الحسنة.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية