الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          6- أحسنوا الظن بالمسلمين

          وأنصح أبنائي الشباب - سادسا وأخيرا - أن يخلعوا منظارهم الأسود، عندما ينظرون إلى الناس، وأن يفترضوا الخير في عباد الله، ويقدموا حسن الظن، وأن يعلموا أن الأصل هـو البراءة، وحمل حال أهل الإسلام على الخير.

          ومما يساعد على هـذا السلوك المتفائل نظرات ثلاث:

          الأولى: أن يعاملوا الناس باعتبارهم بشرا على الأرض، وليسوا ملائكة أولي أجنحة، فهم لم يخلقوا من نور، وإنما خلقوا من حمأ مسنون، فإذا أخطأوا فكل بني آدم خطاء، وإذا أذنبوا فقد أذنب أبوهم الأول: ( ولقد [ ص: 224 ] عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) (طه: 115) . فلا غرابة إذن أن يعثر الناس وينهضوا، وأن يخطئوا ويصيبوا، وعلينا أن نفتح لهم باب الأمل في عفو الله ومغفرته، بجوار تخويفهم من عقاب الله وبأسه، فالعالم كل العالم من لم يوئس عباد الله من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، وحسبنا هـنا قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هـو الغفور الرحيم ) (الزمر: 53) . فانظر إلى إيناسه سبحانه لهم، حين ناداهم " يا عبادي " وأضافهم إلى ذاته المقدسة، تلطفا بهم، وتقريبا لهم من ساحته، ثم كيف فتح باب المغفرة على مصراعيه لكل الذنوب، فإنها مهما عظمت فعفو الله أعظم منها.

          الثانية: أننا أمرنا أن نحكم بالظاهر، وأن ندع إلى الله أمر السرائر، فمن شهد أن " لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " حكمنا بإسلامه، في ظاهر الأمر، وتركنا سريرته إلى علام الغيوب، يحاسبه عليها يوم تظهر الخفايا، وتنكشف الخبايا، وفي الصحيح ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله. ) .

          ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين - الذين يعلم نفاقهم الباطن - حسب ظواهرهم، وأجرى عليهم أحكام الإسلام, وهم يكيدون له في الخفاء، ولما اقترح عليه بعض الناس أن يقتلهم ويستريح من شرهم ومكرهم، أجابهم بقوله: ( أخشى أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! ) . [ ص: 225 ]

          الثالثة: أن كل من آمن بالله ورسوله، لا يخلو من خير في أعماقه، وإن انغمس ظاهره في المعاصي، وتورط في الكبائر. والمعاصي - وإن كبرت - تخدش الإيمان وتنقص منه، ولكنها لا تقتلعه أبدا من جذوره، ما لم يفعلها من يفعلها متحديا لسلطان الله تعالى، أو مستحلا لحرماته، ومستخفا بأمره ونهيه.

          وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقد كان أرفق الناس بالعصاة، ولا تمنعه معصية أحدهم أن يفتح له قلبه، وينظر له نظرة الطبيب إلى المريض، وليس نظرة الشرطي إلى المجرم.

          ( جاء فتى من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنى، فثار الصحابة وهموا به، لجرأته على النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف منه موقفا آخر: قال: ادنه.. فدنا، فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك! قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمته وخالته.. في كل ذلك يقول: أتحبه لكذا؟ فيقول: لا والله، جعلني الله فداك، فيقول صلى الله عليه وسلم : ولا الناس يحبونه.. فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه.. فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء. )[1] وإنما عامله صلى الله عليه وسلم بهذا الرفق، تحسينا للظن به، وأن الخير كامن فيه، والشر طارئ عليه، فلم يزل يحاوره حتى اقتنع عقله، واطمأن قلبه إلى خبث الزنى وفحشه، وكسب مع ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .

          قد يقال: هـذا رجل لم يقترف المعصية بعد، فهو أهل أن يعامل بالرفق والملاينة، بدل الفظاظة والمخاشنة. [ ص: 226 ]

          فإليك هـذا المثل، وهو تلك المرأة الغامدية التي زنت، وهي محصنة، وحملت من الزنى، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطهرها بإقامة الحد عليها، فما زالت به حتى أقام عليها الحد، ولما بدرت من خالد بن الوليد جملة فيها سبها، ( قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتسبها يا خالد؟ والله لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين بيتا من أهل المدينة لوسعتهم! وهل ترى أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل ؟ ) [2]

          قد يقال: هـذه عصت، ولكنها تابت..

          فإليك هـذا المثل الأخر:

          هذا الصحابي الذي ابتلي بالخمر وأدمنها، وأتي به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة شاربا، فيضرب ويعاقب، ثم يغلبه إدمانه أو شيطانه، فيعود إلى الشرب، ثم يؤتى به، فيضرب ويعاقب.. وهكذا عدة مرات، حتى قال بعض الصحابة يوما، وقد جيء به شاربا: ما له لعنه الله؟ ما أكثر ما يؤتى به!

          وهنا لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم على لعن هـذا المسلم، رغم مقارفته لأم الخبائث، وظهور إصراره عليها وإدمانه لها، وقال للاعنه: ( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ) .

          وفي رواية: ( لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم! ) فانظر رحمك الله وإيانا إلى هـذا القلب الكبير كيف وسع هـذا الإنسان وأحسن به الظن، رغم تلطخه بالإثم! وكيف لمح كوامن الخير في أعماقه، برغم ظواهر الشر على غلافه! فوصفه بأنه يحب الله ورسوله. [ ص: 227 ] ولهذا نهى عن لعنه، لأن هـذا يحدث فجوة بينه وبين إخوانه المؤمنين، فيبتعد عنهم، ويبتعدون عنه، وهنا يقترب منه الشيطان، وهذا من أسرار قوله: ( لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم ) ولم يفصم عروة الأخوة بينه وبينهم، بسبب المعصية، وهي كبيرة تكررت؛ لأن أصل الإسلام يجمعهم به، ويجمعه بهم.

          فليفقه هـذه النظرة النبوية العميقة، وهذه التربية المحمدية العالية، أولئك الذين يسيئون الظن بجمهور الناس، ويسقطون عصاتهم من الحساب، وليتعلم من هـذا الدرس المنزلقون إلى بدعة التكفير بالمعاصي، فلو فقهوا وتأملوا، لعلموا أن الذين يكفرونهم ليسوا مرتدين يجب أن يقتلوا، بل جاهلين بحقيقة الدين يجب أن يعلموا، أو متورطين في المعصية بتأثير صحبة السوء وبيئة السوء يجب أن ينقذوا، أو غافلين عن الآخرة بمشاغل الدنيا يجب أن ينبهوا ويذكروا، والذكرى تنفع المؤمنين.

          إن لعن الناس ولو كانوا عصاة منحرفين، لا يصلحهم ولا يقربهم من الخير، بل هـو أحرى أن يبعدهم عنه، وأولى من هـذا الموقف السلبي أن تتقدم من أخيك العاصي، فتدعوه أو تدعو له، ولا تدعه فريسة للشيطان.. وقد قال الحكيم: بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة تنير الطريق!

          هذا ما أردت أن أنصح به لأبنائي من شباب الإسلام المتوقد، الذين أكن في قلبي أعمق الحب لهم، وأعظم الإشفاق عليهم، ولا أقول إلا ما قال خطيب الأنبياء، شعيب عليه السلام : ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) (هود: 88) . [ ص: 228 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية