الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          3- يسـروا ولا تعسـروا

          وأنصح هـؤلاء الشباب ثالثا: أن يتخلوا عن التشدد والغلو، ويلزموا جانب الاعتدال والتيسير، وخصوصا مع عموم الناس الذين لا يطيقون ما يطيقه الخواص من أهل الورع والتقوى، ولا بأس بأن يأخذ المسلم في مسألة أو [ ص: 209 ] جملة مسائل بالأحوط والأسلم، ولكن إذا ترك دائما الأيسر، واتبع دائما الأحوط، أصبح الدين في النهاية " مجموعة أحوطيات " لا تمثل إلا الشدة والعسر، والله يريد بعباده السعة واليسر.

          والناظر في نصوص القرآن والسنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، يجدها تدعو إلى اليسر ورفع الحرج، والبعد عن التنطع والتعسير على عباد الله.

          وحسبنا من القرآن قوله تعالى بعد آيات الصيام: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة:185) .

          وفي آية الطهارة: ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) (المائدة:6) .

          وعقب آيات النكاح: ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) (النساء:28) .

          وفي آية القصاص وإجازة العفو والصلح فيه: ( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) (البقرة:178) .

          وحسبنا من السنة ما ذكرنا من قبل مما رواه ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والغلو في الدين، فإنما هـلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ) [1]

          وما رواه ابن مسعود عنه أنه قال: ( هـلك المتنطعون ) قالها ثلاثا [2] وهو يشمل التنطع في القول، أو في العمل، أو في الرأي.

          وما رواه أبو هـريرة قال: ( بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) [3] [ ص: 210 ] وكان من هـديه صلى الله عليه وسلم ( أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما ) [4]

          ( وقال لمعاذ لما أطال القراءة بالقوم، أفتان أنت يا معاذ؟! ) وكررها ثلاثا. ومعنى هـذا أن التشديد على الناس وأخذهم بالعزيمة دائما فتنة لهم.

          وإذا جاز للإنسان أن يشدد على نفسه طلبا للأكمل والأسلم، فلا يجوز أن يشدد على جمهور الناس فينفرهم من دين الله من حيث لا يشعر، ومن هـنا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، وأخفهم صلاة إذا أم غيره، وقال في ذلك: ( إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه، فليطول ما شاء ) [5]

          ( وعن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: إني لأقوم إلى الصلاة، وأريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز (أي أخفف) في صلاتي، كراهية أن أشق على أمه. ) [6] وقد بين مسلم في صحيحه صورة هـذا التخفيف في رواية له: ( أنه كان يقرأ السورة القصيرة ) .

          ( وعن عائشة أنها قالت: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال (وهو وصل يوم بآخر في الصيام) رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. ) [7] [ ص: 211 ]

          ولئن كان التيسير مطلوبا في كل زمن، فإنه في زماننا ألزم وأكثر تطلبا، نظرا لما نراه ونلمسه من رقة الدين، وضعف اليقين، وغلبة الحياة المادية على الناس، وعموم البلوى بكثير من المنكرات حتى أصبحت كأنها القاعدة في الحياة، وما عداها هـو الشاذ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، وكل هـذا يقتضي التسهيل والتيسير، ولهذا قرر الفقهاء: أن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن عموم البلوى من موجبات التخفيف.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية