الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          ضعف المعرفة بالتاريخ والواقع وسنن الكون والحياة

          ويضاف إلى ضعف البصيرة بالدين: ضعف البصيرة بالواقع والحياة، وبالتاريخ، وبسنن الله في الخلق. فتجد أحدهم يريد ما لا يكون، ويطلب ما لا يوجد، ويتخيل ما لا يقع، ويفهم الوقائع على غير حقيقتها، ويفسرها وفقا لأوهام رسخت في رأسه، لا أساس لها من سنن الله في خلقه ولا من أحكامه في شرعه. فهو يريد أن يغير المجتمع كله: أفكاره ومشاعره وتقاليده وأخلاقه وأنظمته: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بوسائل وهمية، وأساليب خيالية، مع شجاعة وجرأة وفدائية لا تستكثر تضحية وإن غلت، ولا تعبأ بالموت تقع عليه أو يقع عليها، ولا تهتم بالنتائج أيا كانت ما دامت نيتها لله وهدفها إعلاء كلمة الله تعالى.

          ومن ثم لا يستغرب أن تندفع إلى أعمال وتصرفات يسميها بعض الناس " انتحارية " ويسميها آخرون " جنونية " يسقط ضحيتها عدد منهم دون أن يبالوا بذلك شيئا.

          ولو رجع هـؤلاء إلى السيرة النبوية لوجدوا أن رسول صلى الله عليه وسلم , ظل ثلاثة عشر عاما في مكة يدعو ويربي؛ والشرك ضارب أطنابه عن يمينه وشماله، الكعبة البيت الحرام تحيط بها الأصنام التي بلغت نحو (360) صنما، وهو [ ص: 98 ] عليه السلام يصلي عند الكعبة ويطوف بها، وتلك الأصنام من حوله، لم يفكر أن يقوم هـو وأصحابه بهجمة فدائية لتحطيمها والخلاص منها؛ لأنه لو فعل لعرض نفسه وأصحابه للهلاك، لعدم تكافؤ القوى أو تقاربها، ولم تنته بذلك عبادة الأصنام، فإن عابديها سيقيمون بديلا لها في اليوم التالي، ينحتونه أو يشترونه؛ لأن الوثنية قائمة في عقولهم قبل أن تكون في الصنم المعبود ذاته، فما لم تتحرر عقولهم من هـذا الزور فلن يغني عنهم تحطيم الأوثان شيئا.

          ولهذا تركها صلى الله عليه وسلم , واشتغل بالدعوة إلى تحرير العقول بالتوحيد، وتطهير القلوب بالتقوى، وإعداد الصف المؤمن لمعركة فاصلة مع قوى الكفر المتوثب للفتك، المضمر للسوء، وتربية أصحابه على الصبر الجميل، والنفس الطويل، حتى يأتي أوان المواجهة مع الوثنية العاتية وهو آت لا ريب فيه.

          وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يأتونه عليه الصلاة والسلام , ما بين مضروب ومشجوج ومجروح، يلتمسون منه أن يأذن لهم بأن يشهروا سيوفهم ويقاتلون، دفاعا عن أنفسهم، فلا يأذن لهم، ويأمرهم بالصبر وكف الأيدي، حتى يأذن الله بالقتال.

          ومر صلى الله عليه وسلم على عمار بن ياسر وأبويه وهم يعذبون، فلم يملك إلا أن يقول لهم: ( صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة! ) وظل الأمر كذلك حتى أذن الله للمؤمنين بالقتال، دفاعا عن أنفسهم وذودا عن حرية دعوتهم: ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) (الحج: 38،39) . [ ص: 99 ]

          وهنا جاء أوان الصدام المسلح مع الوثنية الطاغية ومقابلة السيف بالسيف، والقوة بالقوة.

          ولكن متى تحقق ذلك؟ إنما تحقق ذلك حين أصبح للنبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن به دار وكيان وسلطان، فكانت السرايا والغزوات، وكان الفتح الأعظم، الذي هـيأ الله به لرسوله أن يدخل مكة فاتحا، بعد أن خرج منها مضطهدا، وأن يضرب أصنامها برمحه، فتخر ساقطة وهو يقول: ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) (الإسراء:81) .

          ومن غرائب ما قرأت وسمعت: موقف قيادة الجماعة التي سموها " جماعة التكفير والهجرة " من التاريخ كما شهد بذلك شاهد من أهلها، فقد سجل الأستاذ عبد الرحمن أبو الخير في ذكرياته عن " جماعة المسلمين " - وهذا اسمها عند أصحابها وأتباعها - هـذا الموقف باعتباره أحد أوجه الخلاف بينه وبين الشيخ شكري مؤسس الجماعة؛ إذ كان الوجه الرابع منها هـو " عدم الاعتداد بالتاريخ الإسلامي، فقد كان شكري يعتبره وقائع غير ثابتة الصحة، وإن التاريخ عنده هـو أحسن القصص في القرآن الكريم، ولذا يحرم دراسة عصور الخلافة الإسلامية، أو الاهتمام بها " (ص 35)

          فانظر يا رعاك الله إلى هـذه النظرة السطحية الضيقة الأفق، التي تجعل دراسة تاريخ المسلمين حراما دينيا! مع أن التاريخ هـو مخزن العبر، ومعلم الأمم، فكما أن الفرد يتعلم من أحداث أمسه لغده، فإن الأمة أيضا تأخذ من ماضيها لحاضرها، وتستفيد من صوابها وخطئها معا، ومن انتصاراتها وهزائمها جميعا. [ ص: 100 ]

          والتاريخ إنما هـو في الواقع ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، والأمة التي تهمل تاريخها أشبه بالفرد يفقد ذاكرته، ويعيش ليومه وحده، بلا ماض يعرفه ويبني عليه، إنه إنسان مبتلى مقطوع الجذور، يرثى لحاله، وهو أحوج ما يكون إلى العلاج، فكيف ترضى جماعة أن تجعل هـذا الوضع المرضي الشاذ أساسا لحياتها؟

          والتاريخ هـو المرآة التي تتجلى فيها سنن الله تعالى في الكون عامة، وفي الاجتماع البشري خاصة، ولهذا عني القرآن عناية بالغة بلفت الأنظار، وتنبيه العقول إلى هـذه السنن للانتفاع بها، وتلقي الدروس العملية منها.

          اقرأ معي هـذه الآيات الكريمة:

          ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (آل عمران:137) .

          وهذه السنن تتميز بالثبات، فلا تتبدل ولا تتحول. كما قال سبحانه: ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيئ * ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله * فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:42-45) .

          كما تتميز هـذه السنن بالعموم فهي تنطبق على الناس جميعا، بغض النظر عن أديانهم، وجنسياتهم، فأي مجتمع أخطأ أو انحرف لقي جزاء خطئه أو انحرافه، ولو كان هـو مجتمع الصحابة أو مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسبنا في هـذا ما دفعه الصحابة ثمنا لخطئهم في غزوة أحد ، وهو ما سجله القرآن عليهم بوضوح في قوله: [ ص: 101 ] ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هـذا قل هـو من عند أنفسكم ) (آل عمران:165) وبين في آية أخرى هـذا الذي عند أنفسهم بقوله: ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم ) (آل عمران:152) .

          وأما القول بأن التاريخ وقائع غير ثابتة الصحة، فقد يصدق هـذا على بعض الوقائع الجزئية، أما الاتجاهات العامة، والأحداث الأساسية فهي معروفة وثابتة بيقين بأكثر من دليل، على أن تلك الوقائع التي يحيط بها بعض الريب لا يصعب على أهل الذكر تمحيصها، وتمييز الخطأ من الصواب فيها، والثابت من المختلق أو المبالغ فيه منها.

          على أننا لا نعني بالتاريخ، تاريخ المسلمين فحسب، بل تاريخ البشرية حيثما عرف، وتاريخ الأمم في أي أرض كانت، وفي أي عصر كانت، وعلى أي ملة كانت، مسلمة أو غير مسلمة، فالعبرة لا تؤخذ من سير المؤمنين وحدهم، بل تؤخذ من المؤمن والكافر، ومن البر والفاجر، لأن الفريقين تجري عليهما سنن الله بالتساوي، ولا تحابي هـذه السنن أحدا شأنها شأن السنن والقوانين الطبيعية، فقوانين الحرارة والبرودة، والغليان والانصهار، والضغط والانفجار، قوانين كونية عامة، تتعامل مع الموحدين تعاملها مع الوثنيين.

          بل نحن لا نفهم القرآن كما ينبغي، ولا نعرف فضل الإسلام تماما، ما لم نعرف ماذا كانت عليه الجاهلية من ضلال، أشار إليه القرآن بمثل قوله: ( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (آل عمران:164) [ ص: 102 ] وقوله ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) (آل عمران:103) .

          وهذا سر ما ورد " عن عمر رضي الله عنه حين قال: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية) . "

          وإذا كان الاعتراف بالحق فضيلة، فإني أعترف أن كثيرا من المشتغلين بأمر الإسلام والدعوة إليه، لم يقرءوا التاريخ، وإن لم يحرموا دراسته على أنفسهم وأتباعهم كما حرمها بعض الغلاة، أعني: لم يقرأوه ببصيرة نفاذة، ووعي حاضر، فليس المهم قراءة الأحداث مسرودة متتابعة، بل المهم النفاذ إلى لبها ومعرفة العبرة منها، والوصول إلى سنن الله فيها.

          كما أنه ليس المهم لمن يسير في الأرض وينظر في آثار الأمم أن يراها بعين رأسه، ويسمع أخبارها بأذنه، إنما المهم هـنا هـو عين القلب وأذنه، كما قال تعالى: ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (الحج:46) .

          إن أحداث التاريخ تتكرر وتتشابه إلى حد كبير؛ لأن وراءها سننا ثابتة تحركها وتكيفها، ولهذا قال الغربيون: التاريخ يعيد نفسه. وعبر العرب عن هـذا المعنى بقولهم: ما أشبه الليلة بالبارحة!

          والقرآن الكريم أشار إلى تشابه المواقف والأقوال والأعمال، نتيجة لتشابه الأفكار والتصورات التي تصدر عنها. وفي هـذا جاء قوله تعالى: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم ) (البقرة:118) . [ ص: 103 ] وقال تعالى عن مشركي قريش: ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هـم قوم طاغون ) (الذاريات:52-53) .

          أي: إن هـذا الاشتراك والتشابه في الموقف من الرسل، بين الأولين والآخرين، والمسارعة إلى الاتهام بالسحر أو الجنون، لم ينشأ نتيجة تواص بين هـؤلاء وأولئك، بل السبب أنهم جميعا طغاة ظالمون، فلما تشابهوا في السبب، وهو الطغيان، تشابهوا في النتيجة.

          ومن عرف التاريخ وسنن الله فيه، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، تعلم من أخطاء الآخرين، وكان له بهم عظة، فالسعيد من وعظ بغيره، واقتبس مما عندهم من خير، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها..

          التالي السابق


          الخدمات العلمية