الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          سوء الظن بالناس

          5 - ومن مظاهر التطرف ولوازمه: سوء الظن بالآخرين، والنظر إليهم من خلال منظار أسود، يخفي حسناتهم، على حين يضخم سيئاتهم. الأصل عند المتطرف هـو الاتهام، والأصل في الاتهام الإدانة، خلافا لما تقرره الشرائع والقوانين: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. [ ص: 49 ]

          تجد الغلاة دائما يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، قفلا يلتمسون المعاذير للآخرين، بل يفتشون عن العيوب، ويتقممون الأخطاء، ليضربوا بها الطبل، ويجعلوا من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفرا!!

          وإذا كان هـناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر وغواية، رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير، خلافا لما أثر عن علماء الأمة من أن الأصل حمل حال المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان.

          وقد كان بعض السلف يقول: إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين ثم أقول: لعل له عذرا آخر لا أعرفه!

          من خالف هـؤلاء في رأي أو سلوك - تبعا لوجهة نظر عنده - اتهم في دينه بالمعصية أو الابتداع أو احتقار السنة، أو ما شاء لهم سوء الظن.

          فإذا خالفتهم في سنية حمل العصا، أو الأكل على الأرض مثلا، اتهموك بأنك لا تحترم السنة، أو لا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم , بأبي هـو وأمي! ولا يقتصر سوء الظن عند هـؤلاء على العامة، بل يتعدى إلى الخاصة، وخاصة الخاصة، فلا يكاد ينجو فقيه أو داعية أو مفكر إلا مسه شواظ من اتهام هـؤلاء.

          فإذا أفتى فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله، ورفع الحرج عنهم، فهو في نظرهم متهاون بالدين.

          وإذا عرض داعية الإسلام عرضا يلائم ذوق العصر، متكلما بلسان [ ص: 50 ] أهل زمانه ليبين لهم، فهو متهم بالهزيمة النفسية أمام الغرب وحضارة الغرب.. وهكذا.

          ولم يقف الاتهام عند الأحياء، بل انتقل إلى الأموات الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلم يدعوا شخصية من الشخصيات المرموقة إلا صوبوا إليها سهام الاتهام، فهذا ماسوني، وذلك جهمي، وآخر معتزلي.

          حتى أئمة المذاهب المتبوعة -على ما لهم من فضل ومكانة لدى الأمة في كافة عصورها - لم يسلموا من ألسنتهم ومن سوء ظنهم.

          بل إن تاريخ الأمة كله - بما فيه من علم وثقافة وحضارة - قد أصابه من هـؤلاء ما أصاب الحاضر وأكثر، فهو عند جماعة تاريخ فتن وصراع على السلطة، وعند آخرين تاريخ جاهلية وكفر، حتى زعم بعضهم أن الأمة كلها قد كفرت بعد القرن الرابع الهجري!

          وقديما قال أحد أسلاف هـؤلاء لسيد البشر صلى الله عليه وسلم بعد قسمة قسمها: ( إن هـذه قسمة ما أريد بها وجه الله! اعدل يا محمد فإنك لم تعدل! )

          إن ولع هـؤلاء بالهدم لا بالبناء ولع قديم، وغرامهم بانتقاد غيرهم وتزكية أنفسهم شنشنة معروفة، والله تعالى يقول: ( فلا تزكوا أنفسكم هـو أعلم بمن اتقى ) (النجم:32) . إن آفة هـؤلاء هـي: سوء الظن المتغلغل في أعماق نفوسهم، ولو رجعوا إلى القرآن والسنة لوجدوا فيهما ما يغرس في نفس المسلم حسن الظن بعباد الله، فإذا وجد عيبا ستره ليستره الله في الدنيا والآخرة، وإذا وجد حسنة أظهرها وأذاعها، ولا تنسيه سيئة رآها في مسلم حسناته الأخرى، ما يعلم منها وما لا يعلم. [ ص: 51 ]

          أجل، إن التعاليم الإسلامية تحذر أشد التحذير من خصلتين:

          سوء الظن بالله، وسوء الظن بالناس، والله تعالى يقول: ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ) (الحجرات:12) ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. ) [1]

          وأصل هـذا كله: الغرور بالنفس، والازدراء للغير، ومن هـنا كانت أول معصية الله في العالم: معصية إبليس، وأساسها: الغرور والكبر ( أنا خير منه ) .

          وحسبنا في التحذير من هـذا الاتجاه، الحديث النبوي الصحيح: ( إذا سمعتم الرجل يقول: هـلك الناس، فهو أهلكهم. ) [2]

          جاءت الرواية بفتح الكاف ( فهو أهلكهم ) على أنه فعل ماض، أي: كان سببا في هـلاكهم باستعلائه عليهم وسوء ظنه بهم، وتيئيسهم من روح الله تعالى.

          وجاءت بضم الكاف أيضا؟ ( فهو أهلكهم ) أي أشدهم وأسرعهم هـلاكا، بغروره وإعجابه بنفسه، واتهامه لهم.

          والإعجاب بالنفس أحد المهلكات الأخلاقية التي سماها علماؤنا: " معاصي القلوب " التي حذر منها الحديث النبوي بقوله: ( ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. )

          هذا مع أن المسلم لا يغتر بعمله أبدا، ويخشى أن يكون فيه من الدخل والخلل ما يحول دون قبوله، وهو لا يدري، والقرآن يصف المؤمنين السابقين بالخيرات، فيقول في أوصافهم: ( والذين يؤتون ما آتوا [ ص: 52 ] وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) (المؤمنون:60) ، وقد ورد في الحديث، أن هـذه الآية فيمن عمل الصالحات، ويخاف ألا يقبل الله منه. ومن حكم ابن عطاء : ربما فتح الله لك باب الطاعة, وما فتح لك باب القبول، وربما قدر عليك المعصية، فكانت سببا في الوصول، معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا!

          وأصل هـذا من " حكمة للإمام علي رضي الله عنه قال: سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك. "

          " وقال ابن مسعود : الهلاك في اثنتين: العجب والقنوط، وذلك أن السعادة لا تدرك إلا بالسعي والطلب، والمعجب بنفسه لا يسعى لأنه قد وصل, والقانط لا يسعى لأنه لا فائدة للسعي في نظره. "

          التالي السابق


          الخدمات العلمية