الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا العباس بن محمد الدوري ) بضم أوله ( حدثنا يونس بن محمد حدثنا فليح ) بضم الفاء ففتح اللام ( بن سليمان ، عن عثمان بن عبد الرحمن ، عن يعقوب بن أبي يعقوب ، عن أم المنذر ) يقال : اسمها سلمى بنت قيس بن عمرو الأنصارية ، من بني النجار ، ويقال : هي إحدى خالاته صلى الله عليه وسلم ، قال صاحب المشكاة في أسمائه : هي بنت قيس الأنصارية ، ويقال : العدوية لها صحبة ورواية ( قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي ، ولنا دوال ) بفتح الدال المهملة وتنوين اللام المكسورة جمع دالية ، وهي العذق من النخلة ، يقطع ذا بسر ثم تعلق ، فإذا رطب يؤكل ، والواو فيه منقلبة عن الألف كذا في النهاية فقوله : ( معلقة ) بالرفع صفة مؤكدة لدوال .

وأما قول ميرك : الأظهر أنه صفة [ ص: 277 ] مخصصة لقولها دوال فخلاف الظاهر ، ( قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ) قال العصام : أي قائما وهو الملائم للمقام لكن الجزم به غير قائم ( وعلي معه يأكل ) أي قائما لقولها بعد فجلس ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي لعلي كما في نسخة ( مه ) بفتح الميم وسكون الهاء ، كلمة بنيت على السكون اسم فعل بمعنى الأمر أي اكفف ، ولا تأكل منه ( يا علي فإنك ناقه ) بكسر القاف بعده هاء ، اسم فاعل من نقه الشخص بفتح القاف وكسرها ، فيكون من حد سأل أو علم ، والمصدر النقهة ومعناه برئ من المرض ، وكان قريب العهد به ، ولم يرجع إليه كمال الصحة والقوة التي كانت موجودة فيه قبل المرض ، وهذا يؤيد قول من قال بالأحوال الثلاثة الصحة والمرض والنقاهة ، وهي حالة بين الحالتين الأولين ، كذا أفاده السيد أصيل الدين ذكره ميرك ، ( قالت : فجلس علي ) أي وترك أكل الرطب ( والنبي صلى الله عليه وسلم يأكل ) قال التوربشتي : أي وحده أو مع رفقائه غير علي ( قالت : فجعلت لهم ) بصيغة الجمع أي طبخت لأضيافي ، وقع في بعض نسخ المصابيح فجعلت له بإفراد الضمير ، وجعله بعض شراحه راجعا إلى علي ، وبهذه الملاحظة قال الفاء في قوله فجعلت جواب شرط محذوف ، يعني إذا ترك علي كرم الله وجهه أكل الرطب ، جعلت له إلى آخره .

قال بعض المحققين : والصحيح رواية هذا الكتاب ، والله أعلم بالصواب ، ذكره ميرك لكن يوجد في بعض نسخ الشمائل له بصيغة الإفراد أيضا ، والأظهر أنه للنبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه الأصل والمتبوع ، كما يدل عليه صيغة الجمع أي له أصالة ولغيره تبعا ، مع أن أقل الجمع قد يكون ما فوق الواحد ، ويؤيده أنه في نسخة لهما وما أبعد من قال أن الضمير في له لابنها ، قال الطيبي : هكذا في الأصول الثلاثة لأحمد والترمذي وابن ماجه ، وكذا في شرح السنة ، وأكثر نسخ المصابيح حين جعلوا الضمير في لهم مفردا ، ليرجع إلى علي رضي الله عنه ، وهو وهم منهم ; لأن الضمير يرجع إلى أهلها والضيفان ، انتهى . فالفاء للتعقيب أي بعد عرض أكل الرطب أو بعد فراغهم منه ، جعلت لهم ( سلقا ) بكسر فسكون ( شعيرا ) أي نفسه أو ماءه أو دقيقه والمعنى فطبخت وقدمت لهم ( فقال النبي ) وفي نسخة قال النبي : ( صلى الله عليه وسلم ) أي لعلي كما في نسخة ( يا علي من هذا ) أي : الطبيخ أو الطعام ( فأصب ) أمر من الإصابة ، والفاء جواب شرط مقدر أي إذا امتنعت من أكل الرطب ، وإذا حصل هذا فكل منه معنا ، وفي التعبير بأصب إشارة إلى أن أكله منه هو الصواب ، كما يفيده تقدير الجار أيضا ، فالمعنى فخصه بالإصابة ولا تتجاوز إلى أكل من البسر ، قال ابن حجر : أي أما من هذا فأصب ، والفاء جواب شرط محذوف ، وتقديم من هذا يوجب الحصر ، أي أصب من هذا لا من غيره ( فإن هذا ) وفي نسخة صحيحة فإنه ( أوفق لك ) أي من جميع الوجوه أو من [ ص: 278 ] سائر الأطعمة ولم يقل في " أوفق " منه ; ليكون إشكالا يستدعي جوابا ، كما فهم الشراح ، قال الحنفي : أنه لمجرد الزيادة ، وقال ميرك : الظاهر أن صيغة التفضيل هنا ورد لمجرد الموافقة ; لأن تحقيق المزية والفضل يتوقف على وجود الفضل في الطرف المقابل ، اللهم إلا أن يقال بطريق الإمكان ، فيتصور الزيادة أو بحسب الحكمة ، قال ابن حجر : إنما منعه صلى الله عليه وسلم من الرطب ; لأن الفاكهة تضر بالناقه لسرعة استحالتها ، وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة ، فأوفق بمعنى موافق ، إذ لا أوفقية في الرطب له أصلا ، ويصح كونه على حقيقته بأن يدعي أن في الرطب موافقة له من وجه ، وأن ضره من وجه آخر ، ولم يمنعه من السلق والشعير ; لأنه أنفع الأغذية للناقه ; لأن في ماء الشعير من التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة ، ما هو نافع للناقه جدا .

ففي الحديث أنه ينبغي الحمية للمريض والناقه ، بل قال بعض الأطباء : أنفع ما يكون الحمية للناقه ; لأن التخليط يوجب انتكاسه ، وهو أصعب من ابتداء المرض ، والحمية للصحيح مضرة ، كالتخليط للمريض والناقه وقد تشتد الشهوة والميل إلى ضار ، فيتناول منه يسيرا فتقوى الطبيعة على هضمه ، فلا يضر بل ربما ينفع ، بل قد يكون أنفع من دواء يكرهه المريض ; ولذا أقر صلى الله عليه وسلم وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة ، وخبره في ابن ماجه قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر ، فقال : ادن كل ، فأخذت تمرا فأكلت ، فقال : أتأكل تمرا وبك رمد ، فقلت : يا رسول الله أمضغ من الناحية الأخرى ، فتبسم صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث الباب أصل عظيم للطب والتطبب ، وأنه ينبغي التداوي فقد صح : " أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا " .

وفي رواية : " حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا " ، وصح أيضا : " تداووا يا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا ، وهو الهرم " .

وفي رواية : " إلا السام " أي : الموت يعني المرض الذي قدر الموت فيه ، وصح أيضا لكل داء دواء ، فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى ، وفسرته رواية الحميدي : " ما من داء إلا وله دواء " ، فإذا كان كذلك بعث الله عز وجل ملكا ، ومعه ستر فجعله بين الداء والدواء ، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء ، فإذا أراد الله تعالى برأه أمر الملك فرفع الستر ثم يشرب المريض الدواء فينفعه الله تعالى .

وفي رواية لأبي نعيم وغيره ، : " أن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله " ، واستفيد من هذه الأحاديث أن رعاية الأسباب بالتداوي لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع الجوع بالأكل ، ومن ثمة قال المحاسبي بتداوي المتوكل اقتداء بسيد المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم ، وأجاب عن خبر : " من استرقى واكتوى برئ من التوكل " ، أي من توكل المتوكلين الذين من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، فجعل بعض التوكل أفضل من بعض .

وقال ابن عبد البر : برئ من التوكل إن استرقى بمكروه ، أو علق شفاءه بوجود ، نحو الكي ، وغفل عن أن الشفاء من عنده تعالى ، وأما من فعله على وفق الشرع ، ناظر للرب الدواء متوقعا للشفاء من عنده ، قاصدا صحة بدنه للقيام بطاعة ربه ، فتوكله باق بحاله استدلالا بفعل سيد المتوكلين [ ص: 279 ] إذ عمل بذلك في نفسه وغيره ، انتهى ملخصا على أنه قيل : لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، فتعطيلها يقدح في التوكل ، وهذا البحث بطريق الاستيفاء مذكور في كتاب الإحياء ، ثم في قوله لكل داء دواء تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب الدواء ، وتخفيف للمريض ، فإن النفس إذا استشعرت أن لدائها دواء يزيله قوي رجاؤها ، وانبعث حارها الغريزي ، فتقوى الروح النفسانية والطبيعية والحيوانية ، وبقوة هذه الأرواح تقوى القوى الحاملة لها ، فيتدفع المريض وتقهره ، والمراد بالإنزال في أنزل له دواء التقدير أو إنزال علمه على لسان ملك الأنبياء ، أو إلهام من يعتد بإلهامه على أن الأدوية المعنوية كصدق الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه والخضوع بين يديه مع الصدقة والإحسان والتفريج عن المكروب أصدق فعلا ، وأشرع نفعا من الأدوية الحسية بشرط تصحيح النية ، ومن ثمة ربما تخلف الشفاء عمن استعمل طب النبوة لمانع قام به ، من نحو ضعف اعتقاد الشفاء به ، وتلقيه بالقبول وهذا هو السبب أيضا في عدم نفع القرآن لكثيرين مع أنه شفاء لما في الصدور .

وقد طب صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأمراض ، ومحل بسطها في الطب النبوي ، وسائر السير من كتاب المواهب ، وزاد المعاد لابن القيم الجوزي وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية