الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 583 ] النوع الثامن والعشرون :

        معرفة آداب طالب الحديث : قد تقدم منه جمل مفرقة ، ويجب عليه تصحيح النية ، والإخلاص لله تعالى في طلبه ، والحذر من التوصل به إلى أغراض الدنيا ، ويسأل الله تعالى التوفيق والتسديد والتيسير ، ويستعمل الأخلاق الجميلة والآداب ، ثم ليفرغ جهده في تحصيله ويغتنم إمكانه .

        ويبدأ بالسماع من أرجح شيوخ بلده إسنادا وعلما وشهرة ودينا ، وغيره ؛ فإذا فرغ من مهماتهم فليرحل على عادة الحفاظ المبرزين ، ولا يحملنه الشره على التساهل في التحمل فيخل بشيء من شروطه . وينبغي أن يستعمل ما يسمعه من أحاديث العبادات والآداب ؛ فذلك زكاة الحديث وسبب حفظه .

        التالي السابق


        ( النوع الثامن والعشرون : معرفة آداب طالب الحديث ، قد تقدم منه جمل متفرقة ، ويجب عليه تصحيح النية ، والإخلاص لله تعالى في طلبه ، والحذر من التوصل به إلى أغراض الدنيا ) .

        فقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا ، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) .

        وقال حماد بن سلمة : من طلب الحديث لغير الله مكر به .

        وقال سفيان الثوري - رضي الله عنه - : ما أعلم عملا هو أفضل من طلب الحديث لمن أراد الله تعالى .

        [ ص: 584 ] قال ابن الصلاح : ومن أقرب الوجوه في إصلاح النية فيه ما روينا عن أبي عمرو بن نجيد أنه : سأل أبا جعفر بن حمدان ، وكانا عبدين صالحين ، فقال له : بأي نية أكتب الحديث ؟ فقال : ألستم ترون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ؟ قال : نعم ، قال : فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الصالحين .

        ( ويسأل الله تعالى التوفيق والتسديد ) لذلك ، ( والتيسير ) والإعانة عليه ، ( ويستعمل الأخلاق الجميلة والآداب ) الرضية .

        فقد قال أبو عاصم النبيل : من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدين ؛ فيجب أن يكون خير الناس .

        ( ثم ليفرغ جهده في تحصيله ويغتنم إمكانه ) .

        ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا : " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجز " .

        وقال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسم .

        وقال الشافعي : لا يطلب هذا العلم من يطلبه بالتملل وغنى النفس فيفلح ، ولكن من طلبه بذلة النفس ، وضيق العيش ، وخدمة العلم ، أفلح .

        [ ص: 585 ] ( ويبدأ بالسماع من أرجح شيوخ بلده إسنادا ، وعلما ، وشهرة ، ودينا ، وغيره ) إلى أن يفرغ منهم ، ويبدأ بأفرادهم فمن تفرد بشيء أخذه عنه أولا ؛ ( فإذا فرغ من مهماتهم ) وسماع عواليهم ( فليرحل ) إلى سائر البلدان ( على عادة الحفاظ المبرزين ) ولا يرحل قبل ذلك .

        قال الخطيب : فإن المقصود بالرحلة أمران :

        أحدهما : تحصيل علو الإسناد، وقدم السماع .

        والثاني : لقاء الحفاظ ، والمذاكرة لهم ، والاستفادة منهم .

        فإذا كان الأمران موجودين في بلده ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة ، أو موجودين في كل منهما فليحصل حديث بلده ثم يرحل .

        قال : وإذا عزم على الرحلة فلا يترك أحدا في بلده من الرواة إلا ويكتب عنه ما تيسر من الأحاديث وإن قلت ، فقد قال بعضهم : ضيع ورقة ولا تضيعن شيخا .

        [ قلت : ليس المراد تكثير الشيوخ للصيت العاطل ؛ وإنما المراد تحصيل الفائدة عند من كانت ] .

        والأصل في الرحلة ما رواه البيهقي في " المدخل " ، والخطيب في " الجامع " عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله قال : بلغني حديث عن رسول الله [ ص: 586 ] صلى الله عليه وسلم لم أسمعه ، فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي ، وسرت شهرا حتى قدمت الشام فأتيت عبد الله بن أنيس ؛ فقلت للبواب : قل له : جابر على الباب ؛ فأتاه فقال له : جابر بن عبد الله ؟ فأتاني فقال لي : جابر ! فقلت : نعم ، فرجع فأخبره ، فقام يطأطئ ثوبه حتى لقيني ، فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص لم أسمعه فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يحشر الله العباد - أو قال الناس - عراة غرلا بهما ، قلنا : ما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم ربهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا لأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه ، حتى اللطمة ، قلنا كيف وإنما نأتي الله عراة غرلا بهما ؟ قال : " بالحسنات والسيئات " .

        واستدل البيهقي أيضا برحلة موسى إلى الخضر ، وقصته في الصحيح .

        وروي أيضا من طريق عياش بن عباس عن واهب بن عبد الله المعافري قال : قدم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار على مسلمة بن مخلد فألفاه نائما ، فقال : أيقظوه ، قالوا : بل نتركه حتى يستيقظ ، قال : لست فاعلا ، فأيقظوا مسلمة له فرحب به وقال : انزل ، قال : لا ، حتى ترسل إلى عقبة بن عامر لحاجة لي إليه ، فأرسل إلى عقبة فأتاه ، فقال : هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من وجد مسلما على عورة فستره ، فكأنما أحيا موءودة من قبرها " ؟ فقال عقبة : قد [ ص: 587 ] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك .

        وسأل عبد الله بن أحمد أباه عمن طلب العلم ، ترى له أن يلزم رجلا عنده علم فيكتب عنه ، أو ترى له أن يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم ؟ قال : يرحل يكتب عن الكوفيين والبصريين ، وأهل المدينة ومكة ، يشأم الناس يسمع منهم .

        وقال ابن معين : أربعة لا تأنس منهم رشدا ، وذكر منهم رجلا يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث .

        وقال إبراهيم بن أدهم : إن الله يرفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث .

        ( ولا يحملنه الشره ) والحرص ( على التساهل في التحمل فيخل بشيء من شروطه ) السابقة ، فإن شهوة السماع لا تنتهي ، ونهمة الطلب لا تنقضي ، والعلم [ ص: 588 ] كالبحار التي يتعذر كيلها ، والمعادن التي لا ينقطع نيلها .

        أخرج المروزي في كتاب العلم ، قال : ثنا ابن شعيب بن الحبحاب ، حدثني عمي صالح بن عبد الكبير ، حدثني عمي أبو بكر بن شعيب ، عن قتادة ، قال : قلت لشعيب بن الحبحاب : نزل علي أبو العالية الرياحي فأقللت عنه الحديث ، فقال شعيب : السماع من الرجال أرزاق . ( وينبغي أن يستعمل ما يسمعه من أحاديث العبادات والآداب ) وفضائل الأعمال ( فذلك زكاة الحديث وسبب حفظه ) فقد قال بشر الحافي : يا أصحاب الحديث أدوا زكاة هذا الحديث ، اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث .

        وقال عمرو بن قيس الملائي : إذا بلغك شيء من الخبر فاعمل به ولو مرة ، تكن من أهله .

        وقال وكيع : إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به .

        وقال إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع : كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به .

        وقال أحمد بن حنبل : ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به حتى مر بي .

        [ في الحديث ] أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا ، فاحتجمت وأعطيت الحجام دينارا .




        الخدمات العلمية