80 - ( فصل )
فهذا حكم المسألة الأولى .
وأما المسألة الثانية - هي قبول شهادتهم على المسلمين في السفر - فقد دل عليها صريح القرآن ، وعمل بها الصحابة ، وذهب إليها فقهاء الحديث .
قال : قال أبي : لا تجوز شهادة صالح بن أحمد أهل الذمة إلا في موضع في السفر ، الذي قال الله تعالى فيه : { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } فأجازها . أبو موسى الأشعري
وقد روي عن " أو آخران من غيركم من ابن عباس أهل الكتاب " وهذا موضع ضرورة ، لأنه في سفر ، ولا نجد من يشهد من المسلمين ، وإنما جاءت في هذا المعنى ا هـ .
وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت - فذكر هذا المعنى - قلت : فإن كان ذلك على وصية المسلمين هل تجوز شهادتهم ؟ قال : نعم ، إذا كان على الضرورة ، قلت : أليس يقال : هذه الآية منسوخة ؟ قال : من يقول ؟ وأنكر ذلك ، وقال : وهل يقول ذلك إلا أحمد ؟ وقال في رواية ابنيه إبراهيم عبد الله : تجوز شهادة النصراني ، واليهودي في الميراث ، على ما أجاز وحنبل في السفر ، وأحلفه . أبو موسى
وقال في رواية أبي الحارث : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني في شيء إلا في الوصية في السفر ، إذا لم يكن يوجد غيرهم ، قال الله تعالى : { أو آخران من غيركم } ، فلا تجوز شهادتهم إلا في هذا الموضع ، وهذا مذهب قاضي العلم والعدل : ، وقول شريح ، وحكاه سعيد بن المسيب عن أحمد ، ابن عباس . وأبي موسى الأشعري
قال المروذي : حدثنا ، قال : حدثني ابن نمير يعلى بن الحارث عن أبيه عن غيلان بن جامع ، عن إسماعيل بن خالد ، عن عامر .
قال : " شهد رجلان من أهل دقوقاء على وصية مسلم ، فاستحلفهما [ ص: 154 ] بعد العصر : ما اشترينا به ثمنا قليلا ، ولا كتمنا شهادة إنا إذا لمن الآثمين ، ثم قال : إن هذه القضية ما قضي فيها مذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم . وذكر أبو موسى عن محمد بن إسحاق أبي النضر عن باذان مولى أم هانئ - عن ، عن ابن عباس تميم الداري في قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } الآية قال : " برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء - وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام [ قبل الإسلام ] - فأتيا الشام [ لتجارتهما ] ، وقدم بزيل بن أبي مريم مولى بني سهم - ومعه جام من فضة [ يريد به الملك ] ، هو أعظم تجارته ، فمرض ، فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله .
قال تميم : فلما مات أخذنا الجام ، فبعناه بألف درهم ، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء ، فلما قدمنا دفعنا ماله إلى أهله ، فسألوا عن الجام ؟ فقلنا : ما دفع إلينا غير هذا ، فلما أسلمت تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله ، فأخبرتهم الخبر ، وأديت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجيبوا ، فأحلفهم بما يعظم به على أهل دينهم فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الآية .
فحلف وأخو سهم ، فنزعت الخمسمائة درهم من عمرو بن العاص عدي بن بداء " .
وروى عن يحيى بن أبي زائدة ، عن محمد بن القاسم عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ، قال : " كان ابن عباس تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة بالتجارة ، فخرج معهم رجل من بني سهم ، فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما ، فدفعا تركته إلى أهله ، وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب ، فتفقده أولياؤه ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفهما : ما كتمنا ، ولا أضعنا ، ثم عرف الجام بمكة ، فقالوا : اشتريناه من تميم وعدي ، فقام رجلان من أولياء السهمي ، فحلفا بالله : إن هذا لجام السهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ، فأخذ الجام ، وفيهما نزلت هذه الآية . [ ص: 155 ]
والقول بهذه الآية هو قول جمهور السلف ، قالت عائشة رضي الله عنها : " سورة المائدة آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها حلالا فحللوه ، وما وجدتم فيها حراما فحرموه " .
وصح عن أنه قال في هذه الآية : " هذا لمن مات وعنده المسلمون ، فأمر الله أن يشهد في وصيته عدلين من المسلمين ، ثم قال تعالى : { ابن عباس أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين فأمر الله عز وجل أن يشهد رجلين من غير المسلمين ، فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله : لا نشتري بشهادتنا ثمنا " وقد تقدم أن حكم بذلك . أبا موسى
وقال : عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : " لم ينسخ من سورة المائدة شيء " . عمرو بن شرحبيل
وقال : عن وكيع عن شعبة عن قتادة " أو آخران من غيركم " قال : " من سعيد بن المسيب أهل الكتاب " وفي رواية صحيحة عنه " من غير أهل ملتكم " .
وصح عن قال : " لا تجوز شريح إلا في الوصية ، ولا تجوز في الوصية إلا أن يكون مسافرا " . شهادة المشركين على المسلمين
وصح عن " من غيركم " . " من أهل ملتكم " وصح عن إبراهيم النخعي " أو آخران من غيركم " قال : " إذا كان في أرض الشرك ، فأوصى إلى رجلين من سعيد بن جبير أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان [ ص: 156 ] بعد العصر ، فإن اطلع بعد حلفهما على أنهما خانا ، حلف أولياء الميت ، أنه كذا وكذا ، واستحقوا " . وصح عن الشعبي { أو آخران من غيركم } قال : " من اليهود والنصارى " . وصح ذلك عن قال : " من غير أهل الملة " وصح عن مجاهد يحيى مثله وصح عن ذلك . فهؤلاء أئمة المؤمنين : ابن سيرين ، أبو موسى الأشعري . وابن عباس
وروي نحو ذلك عن رضي الله عنه ذكر ذلك علي ، وذكره أبو محمد بن حزم أبو يعلى عن ، ولا مخالف لهم من الصحابة . ومن التابعين : ابن مسعود ، عمرو بن شرحبيل ، وشريح ، وعبيدة ، والنخعي والشعبي ، والسعيدان ، وأبو مجلز ، ، وابن سيرين ، ومن تابعي التابعين : ويحيى بن يعمر ، كسفيان الثوري ، ويحيى بن حمزة والأوزاعي .
وبعد هؤلاء : ، كأبي عبيد ، وجمهور فقهاء أهل الحديث ، وهو قول جميع أهل الظاهر . وخالفهم آخرون . ثم اختلفوا في تخريج الآية على ثلاث طرق : وأحمد بن حنبل
أحدها : أن المراد بقوله { من غيركم } أي من غير قبيلتكم ، وروي ذلك عن الحسن ، وروي عن الزهري أيضا .
والثاني : أن الآية منسوخة ، وهذا مروي عن وغيره . زيد بن أسلم
والثالث : أن المراد بالشهادة فيها : أيمان الوصي بالله تعالى للورثة ، لا الشهادة المعروفة .
قال القائلون بها : أما دعوى النسخ فباطلة ، فإنه يتضمن أن حكمها باطل ، لا يحل العمل به ، وأنه ليس من الدين ، وهذا ليس بمقبول إلا بحجة صحيحة لا معارض لها ، ولا يمكن أحد قط أن يأتي بنص صحيح صريح متأخر عن هذه الآية مخالف لها لا يمكن الجمع بينه وبينها ، فإن وجد إلى ذلك سبيلا صح النسخ ، وإلا فما معه إلا مجرد الدعوى الباطلة ، ثم قد قالت أعلم نساء الصحابة بالقرآن : إنه لا منسوخ في المائدة ، وقاله غيرها أيضا من السلف ، وعمل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ، ولو جاز قبول دعوى النسخ بلا حجة لكان كل من احتج عليه بنص يقول : هو منسوخ ، وكأن القائل لذلك لم يعلم أن معنى كون النص منسوخا : أن الله سبحانه حرم العمل به ، وأبطل كونه من الدين والشرع ، ودون هذا مفاوز تنقطع فيها الأعناق . قالوا : وأما قول من قال : المراد بقوله { من غيركم } أي من غير قبيلتكم : فلا يخفى بطلانه وفساده ، فإنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة ، بل هو خطاب عام لجميع المؤمنين فلا [ ص: 157 ] يكون غير المؤمنين إلا من الكفار ، هذا مما لا شك فيه ، والذي قال من غير قبيلتكم : زلة عالم ، غفل عن تدبر الآية .
وأما قول من قال : " إن المراد بالشهادة : أيمان الأوصياء للورثة " فباطل من وجوه :
أحدها أنه سبحانه قال : { شهادة بينكم } ولم يقل : أيمان بينكم .
الثاني : أنه قال : { اثنان } واليمين لا تختص بالاثنين .
الثالث أنه قال : { ذوا عدل منكم } واليمين لا يشترط فيها ذلك .
الرابع : أنه قال : { أو آخران من غيركم } واليمين لا يشترط فيها شيء من ذلك .
الخامس : أنه قيد ذلك بالضرب في الأرض ، وليس ذلك شرطا في اليمين .
السادس : أنه قال : { ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين } وهذا لا يقال في اليمين في هذه الأفعال ، بل هو نظير قوله : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } .
السابع : أنه قال : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } ولم يقل بالأيمان .
الثامن : أنه قال : { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فجعل الأيمان قسيما للشهادة ، وهذا صريح في أنها غيرها .
التاسع : أنه قال : { فيقسمان بالله : لشهادتنا أحق من شهادتهما } فذكر اليمين والشهادة ، ولو كانت اليمين على المدعى عليه لما احتاجا إلى ذلك ، ولكفاهما القسم : أنهما ما خانا .
العاشر : أن الشاهدين يحلفان بالله { لا نكتم شهادة الله } ولو كان المراد بها اليمين ، لكان المعنى : يحلفان بالله لا نكتم اليمين ، وهذا لا معنى له ألبتة ، فإن قيل اليمين لا تكتم ، فكيف يقال : احلف أنك لا تكتم حلفك ؟
الحادي عشر : أن المتعارف من " الشهادة " في القرآن والسنة : إنما هو الشهادة المعروفة ، كقوله تعالى : { وأقيموا الشهادة لله } وقوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ونظائره . فإن قيل : فقد سمى الله أيمان اللعان شهادة في قوله : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } وقال : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } ؟ . [ ص: 158 ] قيل إنما سمي أيمان الزوج شهادة لأنها قائمة مقام البينة ، ولذلك ترجم المرأة إذا نكلت ، وسمي أيمانها شهادة ، لأنها في مقابلة شهادة الزوج .
وأيضا ، فإن هذه اليمين خصت من بين الأيمان بلفظ " الشهادة . بالله " تأكيدا لشأنها ، وتعظيما لحظرها .
الثاني عشر : أنه قال : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } ومن المعلوم : أنه لا يصح أن يكون : أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت ، فإن الموصي إنما يحتاج للشاهدين ، لا إلى اليمين .
الثالث عشر : أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حكم به - وحكم به الصحابة بعده - هو تفسير الآية قطعا ، وما عداه باطل ، فيجب أن يرغب عنه . أما ما ذكره بعض الناس : أن ذلك مخالف للأصول والقياس من وجوه : أحدها : أن ذلك يتضمن شهادة الكافر ، ولا شهادة له .
الثاني : أنه يتضمن حبس الشاهدين ، والشاهد لا يحبس .
الثالث : أنه يتضمن تحليفهما ، والشاهد لا يحلف .
الرابع : أنه يتضمن تحليف إحدى البينتين : أن شهادتهما أحق من شهادة البينة الأخرى .
الخامس : أنه يتضمن شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم .
السادس : أن أيمان هؤلاء المستحقين التي قدمت على شهادة الشاهدين لما ظهرت خيانتهما : إن كانت شهادة ، فكيف يشهدان لأنفسهما ؟ وإن كانت أيمانا ، فكيف يقضى بيمين المدعي بلا شاهد لا رد ؟ .
السابع : أن هذا يتضمن القسامة في الأموال ، والحكم بأيمان المدعين ، ولا يعرف بهذا القائل فهذا - وأمثاله - من الاعتراضات التي نعوذ بالله منها ، ونسأله العافية ، فإنها اعتراضات على حكم الله وشرعه وكتابه .
فالجواب عنها : بيان أنها مخالفة لنص الآية ، معارضة لها ، فهي من الرأي الباطل ، الذي حذر منه سلف الأمة ، وقالوا : إنه يتضمن تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله ، وإسقاط ما فرض الله ، ولهذا اتفقت أقوال السلف على ذم هذا النوع من الرأي ، وأنه لا يحل الأخذ به في دين الله ، ولا يلزم الجواب عن هذه الاعتراضات وأمثالها ، ولكن نذكر الجواب بيانا للحكمة ، وأن الذي تضمنته الآية هو المصلحة ، وهو أعدل ما يحكم به ، وخير من كل حكم سواه { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ } . [ ص: 159 ]
وهذا المسلك الباطل يسلكه من يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا ، فإذا جاءهم حديث خلاف قولهم ، قالوا : هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل .
والمحكمون لكتاب الله وسنة رسوله يرون هذه الآراء وأمثالها من أبطل الباطل ; لمخالفتها للأصول التي هي كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه الآراء هي المخالفة للأصول حتما ، فهي باطلة قطعا ، على أن هذا الحكم أصل بنفسه ، مستغن عن نظير يلحق به .
ونحن نجيبكم عن هذه الوجوه أجوبة مفصلة ، فنقول : أما قولكم : إنها تتضمن شهادة الكافر ، ولا شهادة له . قلنا : كيف يقول هذا أصحاب ، وهم يجيزون شهادة الكافر في كل شيء بعضهم على بعض ؟ . أم كيف يقوله أصحاب مالك وهم يجيزون شهادة طبيبين كافرين حيث لا يوجد طبيب مسلم ، وليس ذلك في القرآن ، فهلا أجازوا شهادة كافرين في الوصية في السفر ، حيث لا يوجد مسلم ، وهو في القرآن ، وقد حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ؟ . أم كيف يقوله أصحاب أبي حنيفة ، وهم يرون نص الشافعي صريحا : " إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به ، ودعوا قولي " وفي لفظ له " فأنا أذهب إليه " وفي لفظ " فاضربوا بقولي عرض الحائط " . الشافعي
وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء به نص كتاب الله ، وعمل به الصحابة . وقولكم : الشاهدان لا يحبسان ، ليس المراد هنا : السجن الذي يعاقب به أهل الجرائم ، وإنما المراد به : إمساكهما لليمين بعد الصلاة ، كما يقال : فلان يصبر لليمين ، أي يمسك لها ، وفي الحديث { } . ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان
وقولكم : يتضمن تحليف الشاهدين : والشاهد لا يحلف ، فمن أين لكم أن مثل هذا الشاهد الذي شهادته بدل عن شهادة المسلم للضرورة - لا يحلف ؟ فأي كتاب ، أم أية سنة جاءت بذلك ؟ وقد حلف المرأة التي شهدت بالرضاع ، وذهب إليه ابن عباس ، في إحدى الروايتين عنه ، وقد تقدم الكلام في تحليف الشهود المسلمين إذا ارتاب فيهم الحاكم ، ومن ذهب إليه من السلف وقضاة العدل . الإمام أحمد
وقولكم : فيه شهادة المدعين لأنفسهم ، والحكم لهم بمجرد دعواهم ، ليس بصحيح ، فإن الله سبحانه جعل الأيمان لهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصيين ، فشرع لهما أن يحلفا ويستحقا ، كما شرع لمدعي الدم في القسامة أن يحلفوا ويستحقوا دم وليهم ، لظهور اللوث ، فكانت اليمين لقوتها بظهور [ ص: 160 ] اللوث في الموضعين ، وليس هذا من باب شهادة المدعي لنفسه ، بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة ، لقوة جانبه ، كما حكم صلى الله عليه وسلم للمدعي بيمينه ، لما قوي جانبه بالشاهد الواحد ، فقوة جانب هؤلاء بظهور خيانة الوصيين كقوة جانب المدعي بالشاهد ، وقوة جانبه بنكول خصمه ، وقوة جانبه باللوث ، وقوة جانبه بشهادة العرف في تداعي الزوجين المتاع ، وغير ذلك . فهذا محض العدل ، ومقتضى أصول الشرع ، وموجب القياس الصحيح .
وقولكم : إن هذا يتضمن القسامة في الأموال . قلنا : نعم لعمر الله ، وهي أولى بالقبول من القسامة في الدماء ، ولا سيما مع ظهور اللوث ، وأي فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم ، وظهوره في صحة الدعوى بالمال ؟ وهل في القياس أصح من هذا ؟ وقد ذكر أصحاب القسامة في الأموال ، وذلك فيما إذا مالك ، ولكن علم أنهم أغاروا وانتهبوا ، فقال أغار قوم على بيت رجل وأخذوا ما فيه ، والناس ينظرون إليهم ، ولم يشهدوا على معاينة ما أخذوه ابن القاسم وابن الماجشون : القول قول المنتهب مع يمينه .
وقال مطرف وابن كنانة وابن حبيب : القول قول المنهوب منه مع يمينه فيما يشبه ، وقد تقدم ذلك ، وذكرنا أنه اختيار شيخ الإسلام ، وحكينا كلامه رحمه الله .
ولا يستريب عالم أن اعتبار اللوث في الأموال التي تباح بالبدل أولى منه في الدماء التي لا تباح به . فإن قيل : فالدماء يحتاط لها ؟ .
قيل : نعم ، وهذا الاحتياط لم يمنع القول بالقسامة فيها ، وإن استحق بها دم المقسم عليه .
ثم إن الموجبين للدية في القسامة ، حقيقة قولهم : إن القسامة على المال والقتل طريق لوجوبه ، فهكذا القسامة هاهنا على مال ، كالدية سواء ، فهذا من أصح القياس في الدماء وأبينه . فظهر أن القول بموجب هذه الآية هو الحق الذي لا معدل عنه نصا وقياسا ومصلحة ، وبالله التوفيق .
81 - ( فصل )
قال شيخنا رحمه الله : وقول الإمام في قبول شهادتهم في هذا الموضع : " هو ضرورة " يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا . على هذا لو قيل : يحلفون في شهادة بعضهم على بعض ، كما يحلفون على شهاداتهم على المسلمين في وصية السفر ، لكان متوجها ، ولو قيل : تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون ، لكان له وجه ، ويكون بدلا مطلقا . [ ص: 161 ] أحمد
قال الشيخ : ويؤيد هذا ما ذكره وغيره - محتجا به - وهو في الناسخ والمنسوخ القاضي لأبي عبيد - أن رجلا من المسلمين خرج ، فمر بقرية فمرض ، ومعه رجلان من المسلمين ، فدفع إليهما ماله ، ثم قال : ادعوا لي من أشهده على ما قبضتماه ، فلم يجدا أحدا من المسلمين في تلك القرية ، فدعوا أناسا من اليهود والنصارى ، فأشهدهم على ما دفع إليهما - وذكر القصة - فانطلقوا إلى ، فأمر اليهودي والنصراني أن يحلفا بالله : لقد ترك من المال كذا وكذا ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين ، ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا أن شهادة ابن مسعود اليهود والنصارى حق ، فحلفوا ، فأمرهم أن يأخذوا من المسلمين ما شهد به اليهودي والنصراني ، وذلك في خلافة ابن مسعود عثمان رضي الله عنه .
فهذه شهادة للميت على وصيته ، وقد قضى بها ، مع يمين الورثة ، لأنهم المدعون ، والشهادة على الميت لا تفتقر إلى يمين الورثة . ابن مسعود
ولعل أخذ هذا من جهة أن الورثة يستحقون بأيمانهم على الشاهدين إذا استحقا إثما ، فكذلك يستحقون على الوصية مع شهادة الذميين بطريق الأولى . ابن مسعود
وقد ذكر القاضي هذا في مسألة دعوى الأسير إسلاما ، فقال : وقد قال الإمام في أحمد : قبلت شهادتهم ، نص عليه في رواية السبي إذا ادعوا نسبا ، وأقاموا بينة من الكفار ، حنبل وصالح ، وإسحاق بن إبراهيم ، لأنه قد تتعذر البينة العادلة ، ولم يجز ذلك في رواية عبد الله وأبي طالب .
قال شيخنا رحمه الله تعالى : فعلى هذا كل موضع ضرورة غير المنصوص فيه : فيه روايتان ، لكن التحليف هاهنا لم يتعرضوا له ، فيمكن أن يقال : لأنه إنما يحلف حيث تكون شهادتهم بدلا ، كما في مسألة الوصية ، بخلاف ما إذا كانوا أصولا ، والله أعلم .